"الصورة" بين التوسيم والإغفال التام

02 اغسطس 2016
لوحة للفنان مريلي وايتهاوس هولم (Getty)
+ الخط -
كان لحادث ذبح رجل الدين الفرنسي الأب جاك هامل في مدينة روان الفرنسية مؤخرًا، أثر كبير في الإعلام الفرنسي، لناحية طريقة بث خبر مماثل. إذ ثمة "مسار عام" تتبعه الميديا في كل أنحاء العالم، عند حصول حادث مماثل. نقل الخبر، الإشارة إلى عدد الضحايا، التنطح أمام مهمة الشرطة، والبدء بمسار "الكشف" عن الجاني. وإن كانت المرحلة الأخيرة تحوز رتبة عالية لدى المتلقي، فإن ثمة "أخبارا" أخرى، تتسلسل من ورائها: كيف هي حياة المجرم قبل جريمته؟ من هم أهله، أصدقاؤه، جيرانه؟ المدرسة التي كانت يرتادها، إن وجدت؟ كيف كان يتصرف؟ ماذا كان يقول؟ فكل تفصيل في حياته سابقٌ على الجريمة، سيتم تضخيمه وإخضاعه للتحليل، بغية إيجاد الصلة والمبرر بينه وبين "الجريمة". فلئن كان شارب خمر، راح "الاستنتاج" صوب براءة داعش منه، ولئن كان ملتحيًا، فلعل تشي غيفارا شخصيًا شوهد معه! وفي المحصلة، تعزف الميديا قطعة موسيقية واحدة. لكأن إشارة البدء بـ"أوركسترا الخبر"، تنظم وتوحّد رد الفعل هذه التي تؤدي في النهاية إلى "ابتكار" سيرة حياة للمجرم/ النجم. من يدري؟ لعل مخرجًا سينمائيًا ما سيحتاج العودة إلى كل تلك التقارير الإعلامية، لصنع فيلم "واقعي". 
النقاش الدائر في الإعلام الفرنسي، كان عمّا إن كان مسموحًا أم لا بعد اليوم، إعطاء اسم القاتل، وبث صورته، وكل تفصيل يتعلق بحياته. إذ يرى البعض أن مسار الميديا أعلاه، يؤدي إلى نوع من "إضفاء" البطولة على القاتل. شيء أشبه بعملية الـBranding، أو التوسيم التي تُستعمل بوفرة في سياسات القوة الناعمة، ويحوز إعجابًا لا متناهيًا من قبل داعش. من هنا كان الحث على عدم بث الصور، والاكتفاء بحرفي اسم المجرم، وإلغاء كل تفصيل قد يفضي للتعرف إلى هويته. "أن تغدو معرفة هوية القتلة أمرًا مستحيلًا، هي السبيل لئلا يتماهى أي فرد معهم. وليعرف الذي (القاتل) يتمنى الموت ممجدًا منتصرًا، أنه مات في الإغفال التام". وفقًا لما قال المحلل النفسي وعالم الأنثروبولوجيا ريتشارد ريشتمان. وفي المقلب الثاني بالطبع، ثمة من يخالف هذه الفكرة ويرى أنها تصب في صالح إخفاء المعلومات، وأنها نوع أيضًا من الرقابة الذاتية، وفي الجملة فإن ذلك سيصب في صالح "صناعة الخوف" التي تسري كما النار في الهشيم في أوروبا اليوم.

في ضوء هذا، سيكون لطيفًا إعادة قراءة كتاب المفكر الفرنسي الشهير ريجيس دوبريه "حياة الصورة وموتها". من الصحيح أن الكتاب المذكور صدر عام 1993، إلا أن الأفكار الواردة فيه، ما زالت تضيء إلى حد كبير عالم الميديا. يكفي مثلًا التأمل بما قاله عن المبدأ الذي قام عليه التلفزيون: اللذة. حيث علاقة الصورة بالواقع والحقيقة، تختلف، من حيث هي تبني رموزها الخاصة وإشاراتها التي تدخل إلى ذهن المشاهد وتؤثر فيه. وحيث البصري يغدو ممثلًا للصورة.

وفي ضوء ما جاء به دوبريه، سيكون لطيفًا أيضًا بعد ذاك، تأمّل "الطريقة" التي رُوّج من خلالها لإطلالة قائد جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني. فقبل الموعد المعلن، غزت صورته كاشفًا عن وجهه وسائل التواصل الاجتماعي. ولعلّها تمثّل أفضل تمثيل الانتقال من الصورة إلى البصري. فصورة الجولاني وإن توسمت إظهار ملامحه، إلا أن "صناعتها" وصولًا إلى البصري، كان حافلًا بإشارات كثيرة، أوضحها: إيقاع الناس في حبه. فتلك الابتسامة وتلك النظرة، وطريقة مواجهة الكاميرا، والزاوية المختارة، فضلًا عن تفاصيل الثياب، تفضي كلّها إلى أمر وحيد: Branding الجولاني، أو توسيم الجولاني.

ويبدو أن ذلك أمرٌ ضروري، ومرتبطٌ بشكل وثيق، بالحوار المتلفز معه الذي كان محل "قرار" تاريخي لـ جبهة النصرة.
فصورة وجه الجولاني صارت هي الحدث، وأنه كشف عن وجهه، كان الخبر الأبرز في عالم التواصل الاجتماعي. وعليه، من الممكن أن يصب الأمر في صالحه، إذ إن الانتقال من الصورة إلى البصري كان ناجحًا، وسيزيد في رصيد الترويج له، كما أنه سيزيد من "المريدين" الذين شاهدوا وجهًا يريدون التماهي معه، يريدون "المجد والانتصار"، وكلّ العدة التي من شأنها أن تكون ضدّ "الإغفال التام". شيء معاكس تمامًا للنقاش الفرنسي أعلاه.
وبين الأمرين يسقط السوريون وحدهم في الإغفال التام.

المساهمون