في أربعينيات القرن الماضي، اقترح عالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو (1908 - 1970)، ضمن نظريّته عن الحاجيات البشرية، ما بات يُعرف بـ"هرم ماسلو"، وهو رسم بياني على شكل هرم وضع فيه خمس طبقات، افترض فيها أن الإنسان ينتقل من واحدة إلى أخرى مع مرور سنوات حياته، بداية من الحاجيات الفيزيولوجية من أكل وشرب ونوم، مروراً بالحاجة للشعور بالأمان، فالحاجة للانتماء، فالحاجة إلى الاعتراف، وصولاً إلى تحقيق الذات، وهو ما يعتبره قمة حاجيات الإنسان، وتاج الهرم.
ليس نادراً أن تكون الروايات اختباراً، أو على الأقلّ تجسيداً، لنظريات فكرية، حيث يُنزلها السرد من فضاء المفاهيم والعلاقات النظرية، إلى بيئة بشرية، فيعيد تركيبها ويضيء ثغرات فيها أو يوصل فكرتها ببساطة أكبر. ألم يكن ذلك حال رواية "المعبد الذهبي" لـ يوكيو ميشيما مع فكرة الجمال، أو "كانديد" لـ فولتير مع فكر لابنتيز؟
وإذا كان ماسلو قد استعار صورة الهرم لإيصال محتوى نظريته، فإننا نجد - للمفارقة - عملاً يضع نظريته موضع اختبار من بلاد الأهرام، وإن كنا لا نجزم بأن الأمر فيه قصدية، ففي رواية "الشحّاذ"، يقترح علينا نجيب محفوظ (1911 - 2006) شخصية عمر الحمزاوي، المحامي الأربعيني الثري وذائع الصيت، فيقف عند عدد من ملامح حياته ليضيء نجاحات متتالية، في العمل وفي الحب والصداقة وغير ذلك، وكأن محفوظ يصعد بالشخصية في درجات "هرم ماسلو".
لكن هذه الشخصية حين تصل أعلى الهرم، ستبدو وقد دخلت بالتدريج في أزمة عميقة، تبدأ في العمل ثم تنتقل إلى جميع وجوه حياة البطل، حيث يقف الحمزاوي بعد تحقيق كل ما يرغب فيه أمام حالة غريبة ليزهد في كل شيء حوله: الزوجة والأبناء والمال والسمعة والنجاح.
اختار محفوظ، الذي تحلّ اليوم ذكرى رحيله، أن يفتح الستار في روايته بزيارة الحمزاوي إلى الطبيب، وقد كانت تلك محاولة أولى في البحث عن حل سحري وجذري لأزمته، غير أنه سرعان ما سيعرف أن مشكلته لن تحلّها "حبّة بعد الأكل أو ملعقة قبل النوم". كان اختيار هذا المشهد دقيقاً، فقد حمل معه تشخيصاً للأزمة غير المفهومة التي تضرب عمر الحمزاوي.
صدرت "الشحاذ" في 1965، وهي واحدة من الروايات التي توضع ضمن "المرحلة الذهنية" من تجربة صاحب "الحرافيش"، وتعدّ العمل الروائي الأكثر اكتمالاً في هذه المرحلة التي افتتحها محفوظ برواية "اللص والكلاب" (1962)، وقد دخلها بأسلوب مختلف وتقنيات روائية جديدة، ووضع لها بنى معمارية لا تشبه تلك التي اعتمدها في مجموعة الروايات التي حققت له، بين الأربعينيات والخمسينيات، نجاحات راسخة ("القاهرة الجديدة"، "خان الخليلي"، "زقاق المدق"...)، وهي نجاحات تجاوزت شخصه إلى فن الرواية العربية بشكل عام. لقد ترك الروائي المصري في "المرحلة الذهنية" القضايا الاجتماعية وتصوير تفاصيل الحياة في حواري القاهرة، بعد أن استنفدت الثلاثية (صدرت بين 1956 و1957) كل ما يمكن قوله في هذا الصدد، كما صرّح محفوظ بنفسه في أحد حواراته.
لعلّنا لا نجانب الصواب هنا إذا قلنا إن عمر الحمزاوي ليس بعيداً عن نجيب محفوظ ذاته، فكلاهما كان يعيش سنوات الستينيات وهو على قمة "هرم ماسلو" بشكل من الأشكال، وكلاهما كان يطلّ من ذلك الموقع على أفق مجهول. ولعلّ الحمزاوي كان مثل فأر تجارب بالنسبة لمؤلفه، فقد حمّله كل ما يمكن أن يحمِله الإنسان من قلق وجودي يطفو بعد أن نعتقد بأننا "تحصّنا ضد القدر بتأمينات شتى".
يجدر أيضاً أن ننتبه إلى أن الرواية قد قُرئت من منطلق كون أزمة عمر الحمزاوي قابلة للتعميم على المثقف المصري الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، فأزمة "الشحاذ" هي أزمة مثقف ما بعد "23 يوليو"، وقد حقّقت الدولة كل طموحاته، أو ادعت ذلك، من كرامة معمّمة وأمن وعدالة اجتماعية، وتركته لجمع المال والأمجاد المهنية والعيش بطمأنينة مع أسرته الصغيرة. لكن هذه الأزمة تظل قابلة للفصل عن سياقات التاريخ المصري الحديث، إنها إشكالية عامة تفلت كلما طُرح سؤال: ماذا بعد صعود درجات هرم ماسلو؟
يخبرنا الحمزاوي بأن كل شيء بات بالنسبة إليه مثل "ذكريات محنّطة"، ولم يبق له سوى أن "يكافح للتملّص من المواد الدهنية"، وأنه يشعر بأنه "يبحث عن حل معادلة دون تأهيل علمي" بعد أن "انهارت قوائم الوجود بفعل بضعة أسئلة". أسئلة يمكن أن تنتقل بسهولة إلى زمننا، إنها أساس مأساة الإنسان بشكل عام في العصر الاستهلاكي، حيث باتت الرفاهية متاحة مثل أكلة سريعة، لكن ماذا بعد تلبية كل الرغبات؟ ألم تكن هذه السهولة فخاً في حدّ ذاته؟ وبالتالي فإن الصعود إلى أعلى الهرم أفضى في النهاية إلى سقوط في قاع الأسئلة الصعبة.
هكذا يجسّد عمر الحمزاوي، في مغامراته الفاشلة على طول الرواية، حالة فقدان المعنى من الداخل. كان يشعر بأنه "يركض وراء نداء غامض"، ولكن سرعان ما يتفتت الصوت منذ أن يقترب منه. ولقد تنبّه النقّاد والقرّاء إلى الاستعارة التي تضمّنها العنوان، فعمر الحمزاوي أبعد ما يكون عن "الشحاذ" بالمعنى المادي، فالرجل كما يصفه محفوظ "عملاق، ناجح، ثري، نسي المشي أو يكاد، يأكل فاخر الطعام، ويشرب الخمور الجيدة، ودماغه مشغول بقضايا الناس وأملاكه". بالتالي يُجبر العنوان المتلقي إلى المرور إلى قراءة استعارية، إنه إجبار على إنتاج معنى مخالف للقراءة الأولى.
بذلك يكون عمر الحمزاوي شحاذ معنى، شحاذ سعادة، شحاذ عودة للحياة. لقد وضعه محفوظ على قمة هرم ماسلو، لكنه جعله غير عارف بما سوف يفعل بعد الصعود السريع، وذلك امتحانه المستحيل.
كانت إشكالية فقدان المعنى بوابة ولج منها محفوظ إلى متاهات شتّى في الحياة، ففصول الرواية تذهب بنا إلى تساؤلات عن أحلام الشباب وخيانتها، وعن العلاقة مع شريك الحياة، ومع الأبناء، والأصدقاء، والوطن، والعمل، والمعتقدات وغيرها.
بشكل موزّع على فصول الرواية، تناول محفوظ أيضاً مسألة دور الشِّعر في الحياة النفسية والعامة، فقد جعل من عمر الحمزاوي شاعراً سابقاً، وضمن تخبّطه بحثاً عن "حركة.. نشوة.. تحيي الكائن دفعة واحدة"، يجد أن ابنته قد بدأت تكتب الشِّعر، وأنها فتحت مجموعته الشعرية القديمة. وضعية يحاول معها الحمزاوي أن يستعيد الشِّعر كوسيلة لإعادة إنتاج المعنى في حياته، لكنه سرعان ما سيفشل ليدخل في تصفية حساب مطوّلة مع الشِّعر، تبدو مثل تفكير في الشِّعر لن نجد مثيلها في مؤلفات نقدية ونظرية، يُرفقها المؤلّف ضمن حوارات للشخصية الرئيسية مع أحد أصدقائه أو مع ابنته، ليخلص إلى تساؤل قاتل: "ما للشعر وهذا الطول والعرض والتفكير الدائب في القضايا وبناء العمارات والطعام الدسم حتى المرض؟".
هكذا، كان عالمُ عمر الحمزاوي يتقوّض بالتدريج، فكل محاولة - من الحب إلى التصوّف - كانت تفضي إلى مزيد من السقوط، سقوط الإنسان المعاصر في أسئلة عصره واستحالة الإجابة عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشعر في الرواية
مع تناوله الشعر كموضوع أساسي انشغلت به رواية "الشحّاذ"، ضخّ نجيب محفوظ الكثير من لغة الشعر، أو من الروح الشعرية، في نصّه، وكان ذلك من بين نقاط قوّة الرواية؛ حيث أحسن توظيف ذلك في بحث الشخصية الرئيسية عن تجديد معنى حياته، فإشكاليات مثل النشوة والحب وانهيار القيم يصعب أن تمسك بها لغة أخرى غير الشعرية. تحوّل هذا التوجه إلى عادة مكرّسة في الرواية العربية من دون أن تكون لها مبرّرات فنية.