"السياسة والبيئة والفن": من السجون إلى فيسبوك

27 مارس 2018
نيكزاد نجومي/ إيران
+ الخط -
مواضيع ثلاثة قد يبدو للقارئ السريع أن ما يفرّقها أكثر بكثير مما يجمعها؛ السياسة والشرعية والرقابة، البيئة والمعضلات الإيكولوجية، ثم الفن والجماليات الحديثة. غير أنه، وبعد التركيز في صلبها، يتبيّن أن خيطاً ناظماً يجمع بينها، إنها ثلاثة سكك تسير عليها مباحث الأكاديميا المعاصرة، إذ تفكّر في المشاكل التي تحيط بالنظام العالمي اليوم، وفي صلبه العالم العربي، وهو الأمر الذي يحاول الباحث الجزائري جمال مفرج مقاربته في كتابه "السياسة والبيئة والفن: العلاقة والإشكاليات" (منتدى المعارف، 2017).

يتطرّق القسم الأول للكتاب إلى السلطة السياسية، منطلقاً فيها من قضية الشرعية السياسية في فكر روسو إلى أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، متناولاً قضية العدالة ومعها قضية الاعتراف وما آلتا إليه عبر العصور، ثم قضية مراقبة الأشخاص والتحكّم فيهم من السجون إلى فيسبوك.

بدايةً، يستشهد مفرج بقول أحد المفكرين السياسيين، الذي كتب في عام 1948 يصف حال الشرعية في القرن العشرين بالقول: "لقد ماتت الشرعية، لأن البشر أصبحوا يشرّعون اليوم القوانين لتبرير القوة. وهي لن تنبعث ثانية إلا بعد أن يتم العثور على مصدر شرعي للحق".

يؤكد مفرج أن هذه العبارات تعبّر أحسن تعبير عن حالة الشرعية اليوم؛ فبين إعلان موتها، والحاجة الملحّة للعودة إلى مصادرها تظلّ الشرعية السياسية المشكلة الأساسية لكل سلطة. لقد أُعلن عن موت الشرعية في منتصف القرن العشرين، بعدما اتّفقت جميع الأنظمة الشمولية؛ شيوعية وفاشية ونازية، على أن الإرادة هي السلطة الأقصى والأقوى التي لا تحدّها حدود ولا تأتمر بأوامر أحد، وبفعل ذلك أصبحت الإبادة الجماعية هي منطق كل سلطة سياسية ترتكز على إرادة بلا حدود.

إن الشرعية السياسية هي، إذن، عبارة عن علاقة بين مؤسسات لها سلطات غير متكافئة؛ فصاحب السيادة هو عبارة عن إرادة تشريعية، والحكومة عبارة عن قوة تنفيذية، أي أننا أمام سلطة ليست سوى إرادة، وسلطة أخرى ليست سوى قوة، والثانية منهما تابعة للأولى. ومصير الشرعية يتوقّف في نظر روسو على مدى احترام هذه التبعية والحفاظ عليها لأطول فترة ممكنة، فأي تعديل في هذه التبعية أو في حدود السلطتين المذكورتين يؤدي إلى تقويض العقد أو الاتفاق، وبالتالي الشرعية، يكتب روسو: "الاتفاقات هي الأساس لكل سلطة شرعية بين البشر".

لكن كيف يحدث أن يخضع الشعب للقوة؟ الحقيقة، يقول روسو، أن ذلك لا يكون ممكناً إلا إذا تحوّل الخضوع إلى فعل من أفعال الإرادة، لا من أفعال الضرورة. ومن السهل أن يحدث ذلك عندما يتعوّد الشعب على التبعية والراحة وأسباب رفاهية العيش، إذ إن ذلك يجعله عاجزاً عن تحطيم أغلاله، ويجعله أيضاً راضياً بأن يزيده حكامه استعباداً، ليزيد هو في توطيد طمأنينته.

يرى مفرج أن الحكومة التي تخرق مبدأ التبعيّة والتعسّف في استعمال السلطة، هي التي تعرّض الشرعية للخطر، وبالتالي فإننا نستنتج أن اللاشرعية تولد من رحم الشرعية، وذلك عندما تتجاوز السلطة التنفيذية حدود شرعيتها الخاصّة. في المقابل، لا يتسبّب التعسف الذي تقوم به الحكومة في حدوث أزمة عابرة، بل في شرّ دائم تكون نتيجته تدمير الحقوق، وعلى رأسها حق المساواة.

لقد توصّل روسو إلى تحديد ثلاث وسائل أو إمكانيات دستورية لاستمرارية التبعية أو الشرعية. أولاها خلق سلطة أو هيئة قضائية خاصة لا تشكّل جزءاً من الهيئات الأخرى، وهذه الهيئة يدعوها روسو منصب الدفاع عن الشعب. أما الثانية فهي الرقابة أو الحقّ في التمثيل، وهو حقّ يؤكد روسو أنه ليس صورياً، بل يجب أن يكون له تأثير فعلي، ولكي يكون له ذلك يجب على المواطنين ألّا يفقدوا الحقّ في التحرّك، أي الحق في التدخّل عند حدوث انتهاكات للقانون أو تعسّفات في استعمال السلطة. في حين تكمن الوسيلة الثالثة في منع كلّ تمركز للسلطة التنفيذية أو ديمومتها، لأنه عن طريق تداول السلطة يكون وجود الأعضاء في جميع الهيئات عابراً، ويصبح بالتالي على جميع المواطنين أن يكونوا مستعدين لتولي الوظائف العامة.

يرى صاحب "المعرفة والقوة" أن الأحداث التي تلت 11 أيلول/ سبتمبر قد أحدثت تغييراً نوعياً في إمكانيات استعمال القوة، لمّا عبرت عن رغبة في إعلان "حرب شاملة ضد الإرهاب"، حرب لا تعرف حدّاً جغرافياً ولا زمنياً. ويوصي مفرج في أوضاع كهذه بوجوب العودة من جديد إلى التطابق بين مفهوم الشرعية والتمتع بالسيادة، أي أن السيادة هي الحاجز الذي تتوقف عنده هيمنة الأقوياء.

من جهة أخرى، وغير بعيد عن مفاهيم السيادة والقوة، وتحت العنوان الفرعي "الكل يراقب الكل"، يكتب مفرج: "لا شك في أن مواقع التواصل الاجتماعي لعبت دوراً لا يستهان به في الثورات العربية المعروفة باسم الربيع العربي، فقد سهلت التنسيق بين الثوار، ومكنتهم من الإفلات من المراقبة ونشر المعلومة. وقد تأكد للجميع، وبالنظر إلى دورها في تحريك هذه الثورات، وبالنظر إلى الدور الذي لعبته أيضاً خلال حملة الانتخابات الرئاسية لباراك أوباما، أن مواقع التواصل الاجتماعي تمكنت بالفعل من الانتقال من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي والتأثير فيه".

غير أنّه يعود ليشير إلى أنه، وبينما كانت الشعوب تحتفل بثوراتها، وكانت شعبية هذا "الصديق" تتزايد يوماً بعد يوم، انفجرت قضية إدوارد سنودن - وهو عميل سابق بوكالتي الاستخبارات الأميركية CIA وNSA، الذي كشف عن وجود برنامج أميركي واسع لمراقبة المكالمات الهاتفية، ونظام تتبّع الإنترنت، كما كشف عن تفاصيل العلاقة الخفية بين مصالح الاستعلامات وفيسبوك.

وقد بيّنت اعترافاته أن "مجال المراقبة من أجهزة الدولة تجاوز بكثير الحدود المسموح بها، كذلك بيّنت أن منارات حرية التعبير الجديدة، أي فيسبوك وتوتير وغيرهما، ليست سوى أدوات للسيطرة والمراقبة الشاملة". وقد يكون هذا الرأي مبالغاً فيه، غير أنه يصبّ في ما بدأ به مفرج كتابه؛ أي التعسف الذي تقوم به الحكومات في حق شعوبها، ومعه اختراق مبدأ التبعيّة والتعسّف في استعمال السلطة، لممارسات الدولة الحديثة.

يتعلّق القسم الثاني من الكتاب بالأزمة الإيكولوجية، أو البيئية، ويتطرق إلى قضية النقاشات الإيكولوجية المعاصرة، ويوضح أصولها التي تنحدر منها، وتحوّلها من الحقل العلمي إلى الحقل السياسي. تعرّف الإيكولوجيا على أنها العلم الذي يدرس العلاقات التبادلية للكائنات الحية مع بعضها البعض ومع الكائنات المحيطة بها، غير أن هذا التعريف على بساطته، يظلّ مبهماً، فهو يقع في الوسط بين العلم والسياسة، لأنه يشير من جهة إلى علم يقع بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، من حيث أنه يدرس العلاقات بين الإنسان وبيئته، وهو يشير من جهة أخرى إلى حركة احتجاجية ترفض، بناء على المعطيات التي وفّرها علم البيئة، الأضرار غير القابلة للإصلاح التي يسببها الإنسان للطبيعة، والتي بدورها تهدّد وجوده.

يكتب مفرج عن الإيكولوجيا المحافظة: "لقد قدّم أغلب الإيكولوجيين أنفسهم كمناهضين للتطوّر الصناعي الحديث، وهو ما نجده خصوصاً لدى الإيكولوجيين الألمان المتقدمين، الذين كانوا يعترضون على تطور ألمانيا العمراني والصناعي باسم الخوف من الانحطاط الروحي لألمانيا. إن هذا الشكل من الإيكولوجيا يسمى "الإيكولوجيا المحافظة"". هذه الأخيرة سرعان ما تحوّلت إلى نوع من الراديكالية العميقة، أي "انتقلت من تصوّر رومنسي للطبيعة إلى شعار جديد هو "من أجل إيكولوجيا شاملة مضادة لشيطان الإنتاج""، أو هو تحوّل إلى نقد للرأسمالية ومناهضة لأضرار الحداثة التي فتكت بالطبيعة.

بهذا يتضح وجود علاقة صراع بين الإيكولوجيا وفكر الأنوار. وبالفعل، فإن الإيكولوجيين يحملون بالأساس خطاباً مضاداً لفكر التقدّم الذي طوّره فلاسفة الأنوار، بوضعهم لهذه الطفرة موضع شك، يضع الإيكولوجيين أنفسهم ضمن المناهضين للحداثة، أو على الأقل ضمن نقّاد الأنوار. ومن هنا جاء نعت الإيكولوجيين من طرف بعض الفلاسفة بـ"المحافظين" و"اللاتقدميين" و"الرجعيين".

وقد بيّن بعض الفلاسفة أن الإيكولوجيا تتضمّن بعداً مضاداً للنزعة الإنسانية أو المركزية الإنسانية. فحسب دومينيك بورغ ينزع أتباع الإيكولوجيا العميقة إلى رفض "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" لأنه نتيجة للمركزية الإنسانية التي ترفع الإنسان فوق الطبيعة. كما ينزعون إلى مهاجمة الديانة اليهودية - المسيحية المتهمة بكونها كانت في الأصل، وراء ظهور المركزية الإنسانية أو البشرية، فالأناجيل في نظرهم، وفي نظر لين وايت خصوصاً، هي التي منحت الإنسان مكانة متميزة عن بقية الموجودات أو المخلوقات الأخرى، وهي التي جعلت البشر يفتكون بالطبيعة عندما دفعتهم إلى الاعتقاد بأن العالم قد وضع تحت تصرفهم.

وفي إشكالية العلاقة التي رسمتها الديانات بين الإنسان والطبيعة، يكتب مفرج: "يمثّل الدين أفضل استجابة لتطلع البشر إلى العيش المشترك في بيئة نقية. والآثار التي يخلفها البشر وراءهم، نتيجة للنزعة الإنسانية الغربية، تقتضي اليوم إعادة النظر في هذه النزعة، وتقييد الدور الذي منحته للإنسان".

القسم الثالث من الكتاب يتعلق بالفنون والإستطيقا والثقافة، ويتطرق إلى قضية العلاقة بين الفن والسياسة من خلال التربية الجمالية لدى الشاعر والفيلسوف الألماني شيلر، الذي اتخذ من التذوّق الجمالي وسيلة إصلاحية لتحقيق أهداف التنوير بعدما لاحظ إخفاق الثورة في تحقيق هذه الأهداف.

ففي رسائله بعنوان "في التربية الجمالية للإنسان"، يذهب شيلر إلى أن المشكلة السياسية لا تحلّ إلا بواسطة الإستطيقا، وإن الدولة المأمولة، دولة العقل، لن تكون ممكنة التحقّق إلا بعد تهذيب وصقل سلوك البشر وتربية المواطن تربية جمالية، فعن طريق الجمال فقط يمكننا تحقيق الحرية، أي أن الفنان سيكون هو صانع التقدّم السياسي.

فإذا كانت هذه هي الخطوط العريضة للتربية الجمالية لدى شيلر، فهل الأمر بهذه السهولة؟ يتساءل مفرج، ويجيب: "الحقيقة، أن الأمر ليس بهذه السهولة، لأن استدعاء الجمال أو الفن لحل مشكلات سياسية خطيرة وعاجلة يبدو أمراً مريباً، وقليل الجدية، مع أن بإمكانه أن يساعد في حل هذه المشاكل، فعندما تستعمل الموسيقى والآداب والأفلام ضمن أهداف سياسية، فإن الأمر لا يعود يتعلّق بتربية مثالية فقط، وإنما بالتأثير، والتوجيه، والسيطرة، وهذا ما بيّنه أدرونو في كتابه "صناعة الثقافة". ففي هذه الحالة، فإن المخاوف من هذا التحالف بين الفن والسياسية تصبح مبرّرة".

المعرفة والقوة
يبدو تأثير الفيلسوف الألماني نيتشه واضحاً على البراديغمات التي يفكّر من خلالها جمال مفرج أستاذ الفلسفة والأخلاق في "جامعة قسنطينة" الجزائرية، ولعلّ مروراً سريعاً على إصداراته سيكون مبرراً واضحاً لهذا التأثير، إذ من بين ما صدر له: "الإرادة والتأويل: تغلغل النيتشوية في الفكر العربي" (2008)، و"المعرفة والقوة: نحو طريقة علمية للهيمنة" (2009)، و"نيتشه الفيلسوف الثائر" (2010).

المساهمون