"السلطة" تعبث بالبديهيات


06 يوليو 2014

محمود عباس في باريس (فبراير/2014/Getty)

+ الخط -

 

تعبث السلطة بالبديهيات، هذه إحدى آلياتها العتيدة، لتكريس بقائها أولاً، ثم تحويل الخاضعين لسلطتها من موضوع إدارة إلى موضوع تشكيل. ويتم العبث بالبديهيات على مهل، وضمن مسارات زمنية طويلة، إلا أن لحظات الشد، ثم الانفجار، تكشف الكثير من العبث الذي مارسته السلطة بنعومة، طوال فترات الهدوء. الانتفاضات الشعبية والثورات مراحل شدّ، يعقبها انفجار، وفيها يظهر جلياً مقدار عبث السلطة في البديهيات.
في حالة السلطة الفلسطينية، سيطول تعداد (مجرد تعداد) البديهيات الوطنية التي عبثت بها السلطة، وبات لها جمهور واسع يرددها. ولكن واحدة من البديهيات الأساسية التي اتضح، بسفورٍ، في الأيام الماضية مقدار العبث بها، هي الكيفية التي يصنع من خلالها قرار شعب مقهور تحت الاحتلال، أو شعبٍ يخوض مساره نحو الحرية.
الخلاصات الموجزة المستقاة من خطاب السلطة، ومنابرها الإعلامية ومنابر حركة فتح الرسمية، حيال أزمة الأيام الماضية، تقول إن القيادة الفلسطينية أدرى وأعلم بمصلحة القضية الفلسطينية، وأحرص على الشعب الفلسطيني من أيٍّ كان. ويصل الخطاب الرسمي غير المشروح، ولا المبرر ولا الموضّح، ليقول، صراحة، إن الرئيس، بحكمته وحنكته، أخبر بمصلحة القضية الفلسطينية من الفلسطينيين أنفسهم، وإن عدم فهمهم خطواته وسياساته ليس مهماً الآن، وأن الرئيس لا يحمل خطاباً شعبياً، بل خطاباً يحمي الشعب، وغيرها من التصورات المبهمة التي لا تجد من ينظر لها شعبياً، وتكتفي السلطة بالإيعاز لخطباء المساجد والناطقين الإعلاميين، لتكرار هذه المقولات المقفلة.
جوهر كل هذه المقولات بسيط، ويفصح عن قناعةٍ، حاولت السلطة فرضها مراتٍ، وهي أن القرار الفلسطيني لا يصعد من الشعب إلى المستوى السياسي، بل ينزل من المستوى السياسي على الشعب، فالقيادة حكيمة والشعب أرعن، أوصلنا، بخياراته الطائشة وحماسته الزائفة، إلى مواجهاتٍ مفتوحة مع الاحتلال، أما السلطة وقيادتها فسعت، وتسعى، إلى جلب الهدوء والاستقرار بأي ثمن، وإدارة المعركة بحنكتها وحكمتها.
يضرب هذا العبث الحقَّ البديهي للشعب الفلسطيني في تقرير خياراته، ويُغيّب الرئيس أدنى المعاني الديمقراطية، حين يفكر بالفلسطينيين وموقفهم ورأيهم، ولا يسمع صوتهم إلا كضوضاء مبهمة. وأقل ما يمكن أن يقال عن خطاب السلطة ومواقفها، اليوم، إنها بعيدة كل البعد عما يصرح به الناس في المظاهرات، أخيراً على الأقل، وباستدعاء اللحظة العربية يبدو واضحاً أن أبو مازن بعيد حتى عن لحظة "فهمتكم، فهمتكم"، هو لا يزال في مرحلة أبلى عنوانها "لا أريكم إلا ما أرى".
هذه الثقة في الخطاب المستعلي عن الشعب وموقفه مفهومة، في حالة الاستبداد العربي، من حكام دول لها بنيتها العميقة، أما في الحالة الفلسطينية فتبدو الثقة الفوقية التي يخاطب بها الرئيس، ومن حوله، الفلسطينيين عجيبة الأعاجيب، خصوصاً وهو يخسر شرعيته الوطنية والنضالية، وفاقد شرعيته الانتخابية منذ سنوات، ومكثّف لكل الرئاسات والسلطات في شخصه، حتى أصبح تعبير "القيادة الفلسطينية" يحيل إليه وحده.
يصح القول، والمقام هذا، إن خطاب السلطة وسلوكها يشيان بأن أقصى خيالاتها واستيهاماتها تتمثل في أن تكون نظاماً عربياً استبدادياً، وسلوكها من أصغر عنصر أمن حتى رأس الهرم البيروقراطي والسياسي المتمركز في الرئيس، يغيّب الفلسطينيين ومشاعرهم في أشد اللحظات دقة، تلك التي يغير فيها المستوطنون على قرى الضفة ومدنها لاختطاف أطفال وتعذيبهم وحرقهم.
واستكمالاً لوصفة الحالة الاستبدادية العربية، يترسّخ التيار المتعلمن المتربلل، المعتاش على هامش السلطة، المنظّر الفعلي لها في وسائل الإعلام والصحافة؛ كراعي الأبوية السياسيّة والمحافظَة المتخاذلة والنزعات السكونية في السياسة، تحليلاً وسلوكاً. وتتلخص مقولة هذا التيار المنطبقة على مقولة السلطة والموجهة للشعب في أنه شعب قاصر وغير قادر، ولا يملك الإمكانات العمليّة، ولا الذهنية التي تمكنه من اختيار خيار الرفض والمواجهة.
إن جوهر النضال من أجل الحرية هي القناعة بقدرة الفرد على الاختيار والفعل، هذا في حالة الفرد الواحد المجرد، فما بالك بشعب يشق درب تحرره منذ عقود. وإن للسلطة لحظتين تفهم فيهما الناس، الأولى مبكرة جداً، وهي ضرورية لتتمكن منهم، وتبدأ بالعبث ببديهياتهم ومسلماتهم وتشكيلها، أما اللحظة الثانية فمتأخرة جداً، حينها لا يجدي الفهم شيئا.


 

دلالات
2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين