"الدولتيون الأخلاقيون" حركة مضادة

17 فبراير 2016
+ الخط -
تزايدت، في الأسابيع الماضية، الهبّات الاحتجاجية في مصر، وتنوعت ما بين اختراقات وقتية للمجال العام، هدفها السخرية من رموز السلطة، والنيل مما تسمى هيبة الدولة، كما حدث في أثناء واقعة "البلالين المصنوعة من واقيات ذكرية" التي قام بها شابان في ميدان التحرير في ذكرى الثورة، ليسخرا من قوات الأمن، ومن الشعارات الشعبية الممجدة دور الجيش والشرطة في حماية الثورة، وبين خروج حشود نقابية واسعة ومنظمة للأطباء المصريين، ترفع مطالب مهنية وتشريعية محددة، لضمان سلامة الأطباء والمرضى، وتهدد بالإضراب المتدرج عن العمل، إذا ما تجاهلت الدولة هذه المطالب، ناهيك عن التزايد الملحوظ الذي شهدته الأنشطة الدعوية للمجموعات الحقوقية التي استهدفت الحشد، وطنياً ودولياً، ضد عنف الأجهزة الأمنية المصرية وبطشها، سواء بالمواطنين في مواقع عملهم أو في الميادين والشوارع، أو بالعاملين في البحث العلمي في مصر، سواء المصريين أو الأجانب، والبطش بهم مهنياً أو جسدياً، إثر قراراتٍ بإلغاء تصريح سفر بعض أساتذة الجامعة، ومقتل طالب دكتوراه إيطالي في ظروف غامضة، كشف تشريح جثته عن آثار تعذيب وحشية.
هكذا بدت الذكرى الخامسة للثورة المصرية: مقموعة، ولكن حبلى بإمكانات حشد متنوعة وغير متوقعة، ومتجاوزة ثنائية الإخوان/ الانقلاب العسكري، وانطلاقاً من مواقع ظن مراقبون كثيرون استحالة تفريخها للتعبئة باسم ثورة يناير مرة ثانية، في ضوء اتساع القمع الأمني لمنظمات المجتمع المدني، واستفحال الاستقطاب المجتمعي، ويأس المواطنين المصريين من إمكانيات التغيير، وإلحاح المجتمع الدولي علي أولوية محاربة الإرهاب الداعشي على ما عداه من انتهاكات للديموقراطية والحقوق والحريات. وتفاوتت ردود فعل النظام على تعبيرات الغضب المستجدة هذه ما بين التنكيل والتخوين والإنكار أو التجاهل التام، مفضلاً التركيز، في الخطاب الرسمي، على الإنجازات المتحققة في مجالات الاستثمار والتنمية والتعاون الدولي، كما ظهر في كلمة رئيس الجمهورية أمام البرلمان، والتي تجاهلت بشكل كامل ما حدث من حشد أخيراً، سعيا لكسر مصداقية هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات.
لم يعكس الموقف الأخير للنظام نمطاً جديداً من المرونة، أو التراجع عن استخدام العنف، أو حتى تبريره، بقدر ما وضح استراتيجية النظام المصري في مواجهة تصاعد الاحتجاجات، وتبلور المطالب بالكشف عن تجاوزات الأجهزة الأمنية، ومساءلتها وإمكانية معاقبتها بشكل جدي، خصوصاً في سياق سياسي، بهتت فيه مخاطر الإرهاب والإخوان المزعومة أو المحتملة. فبجانب تكرار التصريحات المعتادة عن ندرة الأخطاء الفردية لرجال الأمن، واستقلال القضاء المصري ونزاهته، واجترار أهمية كشف محاولات العملاء السياسيين من النيل من استقرار البلد، ظهر جليا ركون النظام إلى ما يمكن تسميته دعم "الحركات الاجتماعية المضادة" لوأد أشكال الاحتجاج الوليدة، اللحظية منها أو المنظمة. اتضح ذلك، أولاً، في اهتمام وزارة الداخلية بالرد على الاتهامات الموجهة إليها بشكل يومي، عبر التصريحات والبيانات الرسمية في الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي ووكالات الأنباء، من خلال وزارة
الخارجية المصرية، كما اتضح ذلك ثانياً في إطلاق مواقع وصفحات إلكترونية متبنية المفردات العامية والكوميكس والكاريكاتير، والقريبة من مفردات المواطنين في حياتهم اليومية، للتنديد، سواء باختراق تنظيم الإخوان المسلمين صفوف نقابة الأطباء، أو التشهير بممارسي مهنة الطب في مصر، والتركيز علي جشعهم المالي وفسادهم الإداري، وسوء ممارساتهم الطبية، أو عبر الاغتيال المعنوي لبعض المشاركين والمساندين لها، وأحياناً حتى للضحايا والقتلى، أخلاقياً، عبر وصمهم بالعمالة، أو اتهامهم بالفساد أو بالشذوذ. واتضح هذا المنطق ثالثاً، بشكل أكثر فجاجة، عبر تصريحات الحكومة أنها لن تتعقب المسيئين، بقدر ما ستترك للمجتمع المصري مهمة الرد عليهم، وردعهم عبر مبادرات تشدد علي الأخلاق والفضيلة، فاتحة بذلك المجال لحلقة جديدة من مسلسل المواجهات الأهلية ودعاوى "تطهير" المجتمع المصري.
هكذا تزامنت، مع ظهور موجات الاحتجاج السابق ذكرها، أشكال جنينية للتصدي لظهور أي موجة حشد احتجاجي، إما بدعوى الدفاع عن تضحيات أجهزة الأمن المصرية، أو بدعوى إنقاذ مسيرة الاستقرار الوطني من العابثين من مثيري الشغب والمفوض، أو بدعوى ضرورة استرداد فضيلة الأخلاق، في مبادرة نخبوية أطلقت علي نفسها حملة "أخلاقنا". وقد اشتركت هذه التعبيرات المستجدة في أنها تولي هيبة الدولة وشرعية تمثيلها المجتمع وكفاءة أجهزتها الأمنية وقدرتها على الانفراد بتعريف "الصالح العام" مكاناً مركزياً في خطابها، كما تبنت هذه المواقف، بشكل عام، مدخلاً أخلاقياً للدفاع عن ممارسات النظام، تجاوزت فيه النغمة المكرّرة عن مخاطر استهداف الأمن القومي إلى ضرورة بناء مجال عام أخلاقي ومنضبط وملتزم بالقنوات الشرعية للتعبير. وقد أدى ظهور هذه الدعوات الأخلاقية إلى انقساماتٍ جديدةٍ في صفوف الإعلاميين والسياسيين، مقلصاً بذلك دائرة مساندي النظام في فئة "الدولتيين الأخلاقيين" الذين يحاربون أي فعل جماعي، يظهر من خارج أروقة المؤسسات الرسمية باسم حماية أخلاق البلاد. ومن المفيد هنا أن نشير إلى خفوت نبرة الدفاع عن الأمن القومي، لصالح نغمة الأخلاق والفضيلة، وتبلور خطاب مجتمعي ومؤسسي، يبجل الاستقرار ويثمن احترام التقاليد، سواء من الزعامات الدينية المسلمة أو القبطية، أو من نجوم الإعلام من إسلاميي الدولة، أو حتى من السياسيين البارزين في النقابات المهنية والأحزاب والحكومة.
تجاوز الأمر، هنا، البروباغندا الإعلامية، سلاحاً وحيداً للنظام، لصالح تشكيل تكوينات
تتجاوز مواقعها المؤسسية لبلورة حملات جماعية أخلاقية، مرة باسم "الغلابة"، ومرة باسم الاحتشام، ومرة باسم حماية الوضع القائم، باعتباره طوقاً للنجاة في منطقة إقليمية مشتعلة. وتكفينا نظرة واحدة على أدبيات الحركات الاجتماعية، لنقارن ما يقوم به النظام السياسي المصري حالياً من تشجيع ودعم لحركات مضادة للاحتجاج مع الحركات المضادة الشهيرة دولياً، والتي قامت كلها باسم الأخلاق، كحركة الحق في الحياة التي أطلقتها الكنيسة الكاثوليكية في مواجهة انتشار مطلب الحق في الإجهاض الإرادي في الستينيات من القرن الماضي، أو حركة التمييز الإيجابي التي ظهرت لتحتوي الغضب المتصاعد بين مساندي حركة الحريات المدنية في الولايات المتحدة في الوقت نفسه. فهل تفشل حملات الدولتيين الأخلاقيين، مثلما فشلت محاولات الكنيسة في تجريم الإجهاض، أم ستنجح وتستمر، وتتمأسس كأسرة للحشد الغاضب، كما استطاعت حملات التمييز الإيجابي تطويع وتدجين مطالب الأفارقة السود، على الرغم من عدل مطالبهم واتساع قواعدهم المجتمعية؟

D8806C83-93F6-4792-87E4-FE7D8A85185B
دينا الخواجة

كاتبة مصرية، أستاذ مشارك في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة ومدير برنامج دعم البحث العربي في مبادرة الإصلاح العربي في باريس.