بعد عملها ممثلةً ومُساعدة مخرج، انتقلت ريم صالح إلى وراء الكاميرا، لتحقيق فيلمها الوثائقي الأول "الجمعيّة" (2018) كمخرجة. به، تمكّنت من طرح اسمها في الوسط السينمائي العربي كـ"مخرجة واعدة". استحقّ الفيلم، الذي عملت عليه بصبر ودأب لـ7 أعوام، أن يُعرض، للمرة الأولى دوليًا، في قسم "بانوراما"، في الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، علمًا أنه كان الفيلم العربي الوحيد في القسم نفسه.
الفكرة جديدة، وغير مُنتشرة في غالبية المُجتمعات، لكنها ضاربة بجذورها العميقة في صميم المُجتمع المصري بطبقاته المُتعدِّدة: "الجمعية"، التي جعلتها ريم صالح نواة عملها. أما "الجمعية" فهي عبارة عن مجموعة أفراد يتّفقون على ادخار بعض المال معًا، لمنحه لهم بترتيب يرتكز على حاجاتهم. لذا، كان منطقيًّا أن تُقدِّم المخرجة أفراد هذه الجمعية، مُختلفي الأنماط والاحتياجات. وكان منطقيًّا أيضًا أن تختار أدنى الطبقات في السلم الاجتماعي، إن كان مفهوم الطبقات، لا سيما في مصر، لا يزال موجودًا، وأن تتخذ من أحد أكثر الأحياء الشعبية بؤسًا في القاهرة المُعاصرة، وهو حي "روض الفرج"، مكانًا تدور فيه الأحداث.
افتتاحية الفيلم قوية فعلاً، كونها تُعرِّفنا، بشكل خاص، على تلك الشخصيات، التي احتلّت كل واحدة منها مساحات زمنية مُتفاوتة في زمن الفيلم، كما تُعرِّفنا على خلفياتها الإنسانية. عدد أفراد الجمعية المختارين في الفيلم 10، كلّ واحد منهم يُساهِم بـ10 جنيهات مصرية يوميّا. بعد ذلك، يحصل كل واحد منهم، عندما يحين دوره، على 3000 جنيه شهريًا (170 دولاراً أميركياً تقريبًا).
مع سردهم احتياجاتهم، يكشف الفيلم كم هي مُلِحَّة: هُناك من يرغب في شراء كساء لأطفاله قبل العيد، ومن ترغب في طلاء المسكن من أجل زواج الابن، ومن يريد شراء بعض البضائع لمتجره، ومن تسعى إلى إلحاق ابنها بـ"رياض الأطفال"، إلخ. هذه كلها ضروريات حياتية لا غنى عنها، خصوصًا بالنسبة إلى أناسٍ يعيشون في حيّ شعبي غارق في الفقر. لكن المُذهل كامنٌ في اشتراك الصبية دُنيا في الجمعية، وشجارها للحصول على المبلغ باكرًا، كي تتمكّن من إجراء عملية ختان، كما يتّضح لاحقًا.
بتقديمها ورصدها فكرة الجمعية وشخصياتها، قدَّمت ريم صالح المُبرِّر الفني الذي لا يستطيع أحدٌ معها أن يتّهمها بالافتعال: تذهب إلى ذاك الحي البائس، وترصد حياة الأفراد/ الشخصيات الغارقين في الفقر، والمقيمين في أمراضٍ مُزمنة ومشاكل دائمة. من دون شكّ، ومع بلوغ الفيلم منتصفه، لم تفقد الفكرة بريقها فحسب، بل استنفدت أغراضها أيضًا، ولم تعُد صالحة لتحمِلَ على كتفيها مدّة العمل، البالغة 80 دقيقة. لذا، ألْفت المُخرِجة نفسها تنزلق ـ بوعي أو من دون إدراك تام، وفي فترات كثيرة ـ إلى مَشاهِد لا تمتُ بصلة إلى الفكرة الرئيسية، ولا تُضيف أبعادًا جديدة على الشخصيات، ولا تُساهم في تعميقها. الأمثلة عديدة، وكان مطلوبًا التعامل معها "مُونتاجيًا" بقسوة وصرامة أكبر، خصوصًا تلك التي يبدو واضحًا أنها حُشِرت حشرًا في السياق، أو أُقحِمَت عليه لاحقًا، فقط لنيل إعجابٍ ما بها. أحد تلك الأمثلة: مشهد تروي فيه الصبية دنيا تفاصيل عملية الختان لصبية أخرى في مثل سِنّها.
من الأشياء البارزة بشكلٍ جلي في "الجمعية"، افتتان ريم صالح بالشخصيات التي اختارتها وقدّمتها والتقطتها كاميرتها. فمع الأعوام الطويلة للتصوير، ومُعايشتها أبناء هذا الحيّ، حيث وُلِدَت والدتها ونشأت وعاشت، قبل زواجها وسفرها إلى لبنان، كان طبيعيّا أن تنشأ علاقة حميمة بينها وبين شخصياتها. لكن، لتلك العلاقة جانب سلبي واضح، كما ذكرنا. ولو أضفنا إلى ذلك وفرة المادة الفيلمية المُصوَّرة، والمُغرية من دون شك، يتبيّن كم كان عسيرًا عدم التأثّر بالشخصيات وبمصائرها حدّ الافتتان، وصعوبة التخلي عن كثيرٍ مما لا لزوم له.
والمُشكلة الأكبر أنها اكتفت طيلة تلك الأعوام برصد الشخصيات فقط، من دون مُحاولة توضيح أسباب معيشتها على هذا النحو، أو تسليط الضوء على عيوبها، ومن بينها الرضى الذليل والتسليم التام بالقدر، والدور السلبي لفهم الدين، وانعدام أي مظهر من مظاهر التمرّد. فالنساء، مثلاً، وهنّ البطلات الحقيقيات في الفيلم وأصحاب الأدوار والمساحات البارزة فيه، مُستسلمات في خنوعٍ تام لكل ما يجري لهنّ من أعمال شاقة، وأحمال ينوء بثقلها الرجال، أو بتطليقهنّ ورميهنّ من دون حقوق أو احترام لأية مشاعر أو لكبر السنّ أو للمرض. لهذا كلّه، تبدو الشخصيات معروفة ومتداولة في أفلام كثيرة، تُترك لرصد تلك الأنماط، في مثل هذه الظروف. شخصيات سُرعان ما ننساها، من دون المضي إلى ما هو أبعد وأعمق. حتى أن المخرجة لم تشأ ـ وفقًا لخيارها الفني ـ أن تُبرز أي تأثير للتحوّلات السياسية العاصفة التي عرفتها مصر في الأعوام الماضية تلك، مُكتفية بإشارات مُقتضبة جدًا إليها، تدل على مُرور الزمن فقط.
ورغم أن نَفَس ريم صالح وصبرها طويلان، أثناء عملها على إنضاج الفيلم، ومُتابعتها لمصائر شخصياتها، وإخلاصها لها، والمَشاهِد الجميلة، وكذلك الإضاءة المضبوطة رغم غلبة التصوير الداخلي، إلاّ أنّ مُشكلة الأداء كانت تفلت منها في أكثر من مكان. صحيح أن الفيلم وثائقي وشخصياته هُواة، لكن مَشاهِد كثيرة صُوِّرت بالاتفاق مع هؤلاء الأفراد. رغم ذلك، برز الافتعال المُبالغ به في أكثر من موضع، ومَردُّ ذلك انعِدام التدريب. إذْ نادرًا ما يلفت الهواة انتباه المشاهدين في أفلام وثائقية دولية كثيرة، تميل إلى تقديم هذا النوع من المواضيع والاشتغالات.