"الجامعة الشعبية" ومسرحة التفكير

12 ابريل 2017
ميشال أونفري في التظاهرة (العربي الجديد)
+ الخط -

استضافت تظاهرة "وثائقيات في تونس" مؤخراً "الجامعة الشعبية في كون" التي أسّسها في 2002 المفكّر الفرنسي ميشال أونفري. ما الذي يمكن أن تقدّمه تجربة فكرية لتظاهرة سينمائية؟ علينا في الحقيقة أن نقلب السؤال، ففكرة "الجامعة الشعبية" هي جعل الفكر مرئياً والاستناد إلى وسائل تواصل مختلفة، من بينها التظاهرات العامة، كطريقةِ وصولٍ مبتكرة للناس خارج غيتو الثقافة النخبوية.

في تقديمه لحضور "الجامعة" إلى تونس، قال أونفري بأن الأمر لا يعدو أن يكون توسّعاً للفكرة وابتعاداً بها عن قواعدها الأولى، فيما يظل الهدف هو نفسه "أن نفكّر في العالم لا أن نفكّر في المفكّرين"، متابعاً بأن تونس "لها اليوم واجب التفكير من موقعها".

يربط أونفري ذلك بأطروحة آخر مؤلفاته؛ "تفسّخ"؛ والذي يرى فيه أن الغرب انتهى كحضارة وأن نواته "اليهومسيحية" لم تعد قادرة على تقديم شيء للبشرية، وهذا الوضع يعني عودة من كانوا خارج المركز لصناعة الحضارة البشرية، ومن بينها الحضارة العربية الإسلامية.

هنا يذكر أونفري أنه كان يخالف الأنثربولوجي الجزائري الراحل، مالك شبل، في أطروحته عن "إسلام متنوّر"، لكنه اليوم يرى أن "فكرته ضرورية"، فهل يأتي ذلك من مراجعة عميقة أم هو حديث على مقاس المستمعين؟

في المحاضرة الأولى، تحدّثت المحللة النفسانية المغربية الفرنسية مريم اللوز عن واقع التحليل النفسي اليوم. تشير اللوز إلى وجود توجّهين أساسيين؛ الأول يرى أن متغيّرات العالم (حدود الدول، وسائل التواصل وغيرها) لم تمسّ بالجوهر الداخلي للإنسان، فيما يرى آخرون أنها أثرت فيه كثيراً، مشيرة أنها تميل إلى وجهة النظر الثانية، فالمتغيرات التي حصلت اخترقت كل الطبقات النفسية.

تقول اللوز إن فرويد حين وضع أُسس علم النفس اعتبر أن العصاب هو العرض النفساني الأكثر انتشاراً في المجتمعات الصناعية، بحيث يمكن اعتبار أن العصابي يمثل نموذج الفرد في العصر الجديد. مقارنة بذلك، تقدّم اللوز أطروحة مفادها أن العصابي لم يعد يحتل نفس المكانة، لتقدّم لاحقاً ما تعتبره النموذج الجديد وهو المنحرف النرجسي.

تعتبر اللوز أن المنحرف النرجسي كان منذ قرن حالة استثنائية وأصبح اليوم منتشراً وهو في طور الانتشار أكثر. ظهر "الانحراف النرجسي" في أدبيات علم النفس في ثمانينيات القرن الماضي مع المحلل النفساني الفرنسي بول كلود راكامييه، الذي عرّفه بـ"ميكانيزمات حماية النفس من كل تناقض داخلي بطرح التناقضات على العالم الخارجي، وصناعة صورة مضخّمة عن الذات".

ترى المحللة النفسانية أن تضخّم التواصل الذي وفّرته التكنولوجيا جعل من نموذج "المنحرف النرجسي" ينتشر كعدوى، خصوصاً حين أتاح الافتراضي "مسرحة الذات وتحويل الآخر (أصدقاء صفحة الفيسبوك مثالاً) إلى جمهور، ثم تتابعت التطوّرات من مجتمع الصورة في كل مكان إلى مجتمع الصورة الحينية، وهذا التطوّر المتسارع هو نتيجة محاولة جماعية لإشباع النرجسيين لنرجسيّاتهم".

من جهة أخرى، تشير اللوز إلى أن تواصل تكاثر المنحرف النرجسي يعني انتشار منطق عدم الاعتراف بالآخر وإيذائه من أجل تفريغ الأزمات النفسية، وهو ما يصنع إشكالية على البشرية أن تبدأ في التفكير فيها: كيف نعيش معاً مع عدم وجود مفهوم الآخر؟

تربط هنا المحاضِرة أطروحتها مع قول أونفري بـ "تفسّخ" الحضارة الغربية، حيث ترى أن انتشار المنحرف النرجسي هو مؤشر على هذا التفسّخ حيث يهيمن نموذجه في العلاقات السياسية والأسرية والمهنية.

أخيراً، تتساءل اللوز: هل يوجد بورتريه لضحية المنحرف النرجسي؟ ترد نعم، "إنه العصابي"، وكأن نموذجاً نفسياً يقوم بابتلاع آخر في عصرنا الحديث كصورة من صور "التفسّخ" الأونفري.

في اليوم الثاني من المحاضرات، تحدّث الباحث الفرنسي في الفلسفة والعلوم السياسية، جيرار بولوان، عن "نزع استعمارية اللغة الفرنسية"، والذي يشير لجمهوره التونسي بأنه "أمر يهمّكم ويهمّنا"، باعتبار أن اللغة الفرنسية لها اليوم أكثر من وجه؛ فهي لغة التنوير وهي لغة الاستعمار وأيضاً لغة التحرّر من الاستعمار.

يستشهد بولوان بمجموعة من الكتّاب غير الفرنسيين الذين ساهموا في عمليات "نزع استعمارية الفرنسية" ويقرأ من نصوصهم، من بينهم الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي والروائية الجزائرية آسيا جبار والشاعر التونسي طاهر البكري، إضافة إلى أسماء أخرى مثل ليوبولد سنغور وإدوار غليسان وإيميه سيزار، وهؤلاء "منحوا اللغة الفرنسية ظلالاً وآفاقا لم تكن لها".

عن أشكال "نزع استعمارية الفرنسية"، يشير إلى أن آسيا جبار، بعد مرحلة مقاومة الاستعمار، واصلت اعتبار الفرنسية لغة مقاومة في مواجهة القوى الاجتماعية المحافظة. من خلال تجربة طاهر البكري، يشير إلى شكل آخر بـ "تحويل الفرنسية إلى فضاء لجعل التقاليد العربية مرئية".

يختم بولوان بملاحظته أن ما أنقذ الفرنسية وينقذها من انغلاقها هو الفضاء الفرنكفوني، مع الإشارة إلى أن التقسيم فرنكفوني ليس دقيقاً، إذ هو في اعتقاده "ليس أكثر من تصنيف وضعه أصحاب المكتبات".

في المحاضرة الأخيرة، يعود أونفري للحديث. كان عنوان المحاضرة بحسب البرنامج "الزمن الطويل للعلمانية"، غير أن صاحب كتاب "كوسموس" قال في بداية كلمته "أفضّل أن أفكّر من منطلق 48 ساعة قضّيتها في تونس".

يشير أونفري أنه خلال هذين اليومين لفته أن تردّد عليه أكثر من مرة طلب تونسيين أن يحدّثهم عن تونس. برأي المفكر الفرنسي، يعني ذلك أن "التفكير يحدث بمفردات الهوية الجماعية، والتي لا تسمح للأنا (الفرد) أن يوجد".

لتجاوز ذلك، يرى أونفري بضرورة النظر إلى أنفسنا وتاريخنا بأوسع نظرة والعودة إلى أبعد نقاط ممكنة، معتبراً أن المؤرّخ أكثر فائدة من المفكّر اليوم، وأن هذه النظرة الطويلة تمثّل فعل مقاومة لمن يفرضون النظرة القصيرة (السياسيين، والإعلاميين..) حيث يكمن مجال مناورات السلطة.


كون أم السيجومي؟
خلال أنشطة "الجامعة الشعبية في كون"، طُرحت فكرة إنشاء فرع تونسي لها. للإشارة، توجد في تونس منذ بداية 2016 تجربة "الجامعة الشعبية محمد علي الحامي" في السيجومي (حي شعبي في ضواحي تونس العاصمة) والتي انخفض إشعاعها مقارنة بالبدايات. بين "السيجومي" واستنبات "كون"، تظهر خيارات الساحة الثقافية التونسية، فإما الاستفادة من دفع "المركز الغربي" والسير بسرعة، أو أخذ خيار الدفع الذاتي والتقدّم ببطء.
المساهمون