"التشجيع"... من الرياضة إلى السياسة!

02 فبراير 2014
"بقايا العرس" روكني هاريزاده/ إيران
+ الخط -

يقولون إن تشرتشل مرّ يوما بقبر مكتوب على شاهده: "هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي الفذ"، ضحك تشرتشل وقال: "هذه أول مرة أرى فيها رجلين في قبر واحد!"، والعهدة على الرواة. هذا على صلة كبيرة بالعلاقة الجدلية بين السياسة والأخلاق، وفي كل الأحوال لا يعني اتفاق السلوك السياسي مع الأخلاق أن السلوك أخلاقيّ بالمطلق، فقد يتم ذلك عرضا. المهم أن السياسي الفذ صاحب نزعة سياسية حاضرة دوما، يزن كل أفعاله وقرارته بميزان سياسي، وإن شئنا أم أبينا متصل بما يسمى "المصالح". صار لدينا ثلاث مفردات؛ سياسة، أخلاق، مصالح.

يدرك السياسي موقعه من هذه المفردات الثلاث، أو من المفترض أن يدرك موقعه بينها، إلا أننا في هذه المرحلة من السيولة الإعلامية وقدرة أي فرد على التعبير عن رأيه في مجال عام افتراضي سائل، أمام حالة جديدة، ومتصلين آخرين بالعملية السياسية يمكن إطلاق وصف "مشجع" عليهم.

ووصف "مشجع" مجلوب من المجال الرياضي طبعا، وتحديدا المجال الرياضي المعولم حيث يشجع من يعيش في أستراليا والصين وأثيبوبيا والمغرب النادي الأوروبي نفسه، والمشجع في الرياضة هو من يرتبط عاطفيا بفريق أو نجم ويتمنى له الفوز ويفرح بذلك، ويخشى خسارته ويحزن حال وقوعها.

ولا يمكن إنكار أن المشجع لا تربطه بمن يشجعه علاقة مصلحة أو نفع، وإن كانت فهي عائدة على المشجَّع لا على المشجِّع، وباستثناء السعادة العارمة أو الحزن الكالح لن يجني المشجع شيئا من فوز فريقه أو خسارته. الخلاصة أن فعل التشجيع هو من طرف واحد وهو يقبع في مستوى العاطفة أول الأمر.

وبالعودة إلى المفردات الثلاثة شديدة الاتصال بما يدرج الناس في أيامنا على تسميته "سياسية"، يتبين أن المشجع السياسي يفقد مع الوقت فمهمه للأخلاق على أنها قيم مستقلة بذاتها أو معطيات مجردة، ويتعامل معها وفق منطقين، أولا يغيّبها من السجال والفهم إن كان يتناول من يشجعهم، ويرى السياسة لعبة مصالح قائمة على تحقيق أكبر قدر من المكاسب، وأقل قدر من الخسائر بصرف النظر عن تلك القيم النائية التي تسمى الأخلاق.

ولكنه في حالة من يناصبهم العداء- لأنهم خصوم فريقه- يجهد في طرح الأسئلة الأخلاقية واستدعاء الشواهد التي يراها متعارضة مع "الأخلاق" كقيم مجردة ثابتة، والخلاصة في هذا المستوى أن انتهاك فريقه لما يعرف بالأخلاق هو اضطراري لأن مجال الفعل السياسي لا يقيم لها وزنا بل يقوم على المصالح المحضة؛ أما انتهاك خصومه لها فهو يستحق الاعتراض والتشهير. ولا حاجة للإشارة إلى الاعوجاج الواضح في هذه الحالة.

أما الحالة الثانية فهي ربما مرحلة متقدمة من استفحال الحالة الأولى، فلدى المشجع السياسي تنطبق الأخلاق على الفعل السياسي لمن يشجعهم، ويستدل على الأخلاق من فعلهم السياسي، ولا يضعها في موقع منفصل ليحكم على الفعل السياسي من خلالها؛ بل يصبح فعل من يشجعهم هو مقياس الفعل الأخلاقي، فكل فعل سياسي يأتيه فريقه، أخلاقي، والأخلاقي هو فعل فريقه السياسي. وعلى الجهة المقابلة ووفق هذا المنطق يغدو كل ما يقوم به خصوم فريقه غير أخلاقي، فالأخلاق متجسدة في سلوك فريقه السياسي وكل من يعارض هذا السلوك يمس الأخلاق تحديدا. ويبلغ الأمر حدا يصل إلى إنكار المصالح ودورها في مجمل العمل السياسي.

مشجع السياسة شديد الشبه بمشجع الرياضة، وكل ارتباطه بالصراع أو المتنافسين عاطفي خالص، ولم ولن يتحول إلى غير ذلك لأسباب موضوعية كانعدام أفق الفعل بل وانعدام الرغبة في الفعل. وفي الخلاصة فلا وجود لأية قيمة نفعية أو مصلحية في العلاقة، تشجيع وحسب، أو هكذا يبدو الأمر في ظاهره. ولكن وإن كان الأمر كذلك من جهة المشجع فإنه ليست كذلك من جهة الفريق السياسي، وخاصة في مجال غير ديمقراطي أو مجال تعثر مساره الديمقراطي؛ فالفريق هنا، بخلاف الفريق الرياضي، يستخدم هؤلاء المشجعين في سجالاته ويرى فيهم مصدر شرعيته، بل يستخدم الخطاب الذي طوروه في الحالة الثانية ليصفّي خصومه ويجهز عليهم، وما يحصل في مصر وسوريا حاليا أصدق تعبير عن هذه الحالة.

ولكن ما الذي يحدث في حال انتصار فريق على آخر، ما الذي يتغير على المشجعين من الجانبين، في حالة مشجع الفريق المهزوم فمن المحتمل أن يلج حالة من الإنكار المطلق للواقع، وينعزل الأفراد عن الواقع تماما، ويفقدون أية قناعة بالقدرة على التأثير به أو تغيره، وتتحول "المظلومية" إلى وعي كامل حيال المجال السياسي كله، وقد ينتظرون جولة تشجيع أخرى تعيد لهم توازنهم كما ينتظر مشجعو الفرق الرياضية البطولة المقبلة.

إلا أن الخلاص الفعلي من هذه الحالة لا يكون إلا عبر مشروع حقيقي ينخرط فيه المشجع كلاعب ومشارك، إما بقناعة تامة بأن الأخلاق لا وجود لها في ميدان الفعل السياسي، وهو مجال مصلحي نفعي خالص ويفتح الباب إما لكسب مكاسب واسعة أو إيقاع خسائر فادحة، أو بإدراك واضح لأهمية فصل الأخلاق كقيم مجردة عن سلوك فريقه السياسي وكذلك عن سلوك خصومه، وإقامتها كمقياس يقيس عبره فعل الفريقين ويعدل موقفه بناء عليها.

في النظم الديموقراطية ينحسر حضور المشجعين سياسيا إلى الحد الأدنى مقابل الانخراط الواسع في الفعل السياسي، أما النظم غير الديمقراطية فهي تلك التي تسعى لتحويل مجمل مواطنيها إلى مشجعين سياسيا، يبررون فاشيتها ويسبغون عليها حلة أخلاقية دون فهم واع لطبيعة العمل السياسي، وبالضرورة والحال هذه أنه لن يعكر صفو هذه النظم شيء كما يمكن أن تفعل نخب أو جماعات تعيد الاعتبار لقيم أخلاقية ولو بالحد الأدنى، وفق قناعة عامة مفادها أن السياسي الفذ يمكن أن يكون صادقا.

المساهمون