"الانسحاب الكبير": القرار الذي أفاد الاحتلال وأضرّ به

25 مايو 2014
جنود إسرائيليون يحتفلون بانسحابهم من لبنان عام 2000 (getty)
+ الخط -

وفّر الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، بين 22 و25 مايو/أيّار 2000، مناسبة نادرة لإجماع الإسرائيليين على صوابية الخطوة، ذلك أنّ الملف اللبناني، لاسيّما الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، انقلب إلى لعنة طاردت دولة الاحتلال، وفتح عليها أبواب جهنم، لتجد نفسها أمام ميزان جديد من العلاقة مع لبنان ومع قواه، خصوصاً بعدما خرجت المقاومة الفلسطينية من المعادلة.

وإن كان هناك شبه إجماع في تل أبيب حول صحة قرار الانسحاب الذي اتخذه إيهود باراك ذات مايو/أيّار 2000، على اعتبار أنّه أوقف نزيف الإسرائيليين، وأعاد "الأبناء إلى البيت"، إلا أنّ طريقة تنفيذ الانسحاب، والذي بدا أمام الكاميرات وكأنه تم على عجل، من دون تخطيط، أقرب إلى الفرار منه إلى الانسحاب المقصود، شكلت موضع خلاف ونقاش جعلت بعض العسكريين السابقين، ومسؤولي الأجهزة الأمنية، مثل الجنرال احتياط يئير رابيد، يعتبر أنّ طريقة الانسحاب كانت "ضربة للردع الإسرائيلي وهيبة إسرائيل".

في المقابل، رأت دراسة أصدرها دانيل سوبلمان من "مركز يافا للدراسات الاستراتيجية"، أنّ الانسحاب وفّر لإسرائيل "سنوات من الهدوء والاستقرار، لسنوات طويلة، ومحا صورتها كدولة احتلال، مما وفّر لها لاحقاً أدوات وقواعد عمل جديدة سواء تجاه لبنان عموما، وتجاه حزب الله تحديداً. ويوضح سوبلمان أنّ حزب الله لم يعد في سنوات الانسحاب الأولى قادراً على تعريف نفسه كجهة تقاوم الاحتلال".

غير أنّ الجنرال احتياط رؤوبان إيرلخ، أشار، في دراسة عن الانسحاب الإسرائيلي وتداعياته المباشرة واللاحقة، وصولاً إلى حرب لبنان 2003، إلى أنّ حزب الله "وظّف الانسحاب الإسرائيلي لأقصى درجة ممكنة ضمن قطف ثماره على شكل نفوذ سياسي في مجلس النواب، وفي الحكومة اللبنانية، من جهة، مع انتشاره في الجنوب وبناء ترسانة عسكرية وقواعد تحت أرضية لمواجهات مقبلة، من جهة ثانية".

وكانت إسرائيل قد اعتمدت، بعد الانسحاب، بحسب ما يكشفه تقرير "فاينوغراد" الصادر بعد عدوان يوليو/ يتموز 2006، طيلة السنوات التي سبقت الحرب الثانية على لبنان، سياسة "الاحتواء" تجاه حزب الله ونشاطه، ولم تكن تسعى، رغم اختراقها الدائم للأجواء اللبنانية، إلى صدام يضطرها إلى تكرار تجربة الاجتياح، واكتفت بالعمل على محاولات تقزيم انجازات حزب الله، ومنعه من توسيع نشاطه العسكري.

كان واضحاً أنّ الصدمة التي أحدثها استمرار الحرب في لبنان، حتى بعد خروج المقاومة الفلسطينية منه، وبقاء إسرائيل في الشريط المحتل، حتى "استنفذ هذا الشريط دوره" وفق تعبير إيهود باراك في يوم الانسحاب، شكلت عاملاً أساسياً في عدم تكرار الحرب البرية والاجتياح المباشر للبنان في الحرب الثانية، وإعطاء الأولوية للطيران الحربي، وفقط بعد ذلك الدخول في حرب برية كانت كارثية على الدولة العبرية.

ولعل أبرز التداعيات الأولية للانسحاب، كما بدا ذلك لاحقاً في الحرب الثانية، هو فقدان إسرائيل لقواعدها الاستخباراتية في لبنان، وليس مواقعها العسكرية فحسب، خصوصاً بعد فرار آلاف المتعاونين والعملاء من جيش لحد إلى إسرائيل. ومنذ العام 2000، لم يعد بمقدور إسرائيل أنّ تحتفظ بـ"عيون" (بشرية)، بل اكتفت بزرع أجهزة رصد ومراقبة وتصوير، في مناطق مختلفة كان يعثر عليها من حين لآخر. وكان فقدان إسرائيل لـ"بصرها" الميداني في لبنان، أثره في سير الحرب الثانية، تحديداً مع اندلاع معاركها البرية حين تبيّن إلى أي درجة تفتقد قوات الاحتلال إلى الإحداثيات الدقيقة.

لكن الرائد في سلاح الاستخبارات العسكرية، إيرز مغين، يعتبر أنّه كانت للانسحاب ثمار إيجابية أكثر منها سلبية، حتى اندلعت حرب لبنان الثانية في 2006.

عملياً، نقل الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، الحرب بين إسرائيل وحزب الله، ومعه بعض التنظيمات الفلسطينية، الى عصر جديد، شكلت فيه التكنولوجيا المتطورة، السلاح الأساسي في جمع المعلومات من قبل الطرفين.

ويرى عدد كبير من المحللين العسكريين في إسرائيل، أن الهدوء الذي وفره الانسحاب من الجنوب، منح إسرائيل فرصة ذهبية للعودة إلى الملف الفلسطيني بقوة، بعدما أن اطمأنت تل أبيب إلى هدوء الجبهة الشمالية، وهو ما أتاح لحكومة أرييل شارون، في العام 2002، استغلال العملية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في فندق بنتانيا، خلال عيد الفصح اليهودي، كذريعة لإعادة احتلال الضفة الغربية في عدوان "السور الواقي"، وحصار الرئيس الراحل ياسر عرفات في "المقاطعة"، من دون أنّ تحسب حساباً لخطر ما على الجبهة الشمالية.

ويمكن القول إن سنوات الهدوء الست التي أعقبت الانسحاب من لبنان، أعطت حزب الله، هو الآخر، فرصة لتعزيز ترسانته العسكرية، وخصوصاً الصاروخية، إذ قدرتها إسرائيل قبل الحرب الثانية بأنها 40 ألف صاروخ، سقطت الآلاف منها على الجبهة الإسرائيلية الداخلية، وزرعت الرعب فيها.

ومع أنّ إسرائيل أعادت نشر قواتها وقواعدها العسكرية في شمال فلسطين، وانتقلت من ميدان الاقتحام المباشر والتوغل البري، إلى نبرة التهديد والوعيد والقصف الجوي، إلا أنها اطمأنت إلى هدوء الجبهة الشمالية. وانعكس ذلك على ضعف التدريبات والجاهزية لدى جيشها، وعلى منطق اتخاذ القرارات المتعلقة بالعمليات الميدانية والقتالية في الحرب الثانية على لبنان، والتي انتهت بتدمير بنية لبنان التحتية، ولكن أيضاً بهزيمة عسكرية رسخها تقرير لجنة التحقيق الرسمية برئاسة القاضي فاينوغراد.

ومنذ اندلاع الثورة السورية، تطبّق إسرائيل سياسة متابعة ما يحدث في الأراضي السورية وفي لبنان، مع كسر "ميزان الصمت" و"هامش الإنكار" الذي ميز العلاقات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله منذ الحرب الثانية على لبنان، حتى مارس/آذار الماضي. وقد تمثل هذا "الهامش" بعدم إقرار إسرائيل بعملياتها في العمق السوري أو اللبناني، مقابل عدم اضطرار النظام السوري أو حزب الله إلى التوعد بالرد، وخصوصاً أنّ الحزب لا يزال يتوعد بالرد على اغتيال قائده العسكري عماد مغنية، وعلى ضرب الجيش الإسرائيلي لمواقعه في الجنوب اللبناني وفي جتنا، رداً على محاولة الحزب تنفيذ عمليات قرب الحدود السورية في مارس الماضي.

المساهمون