تتجاهل الأطراف اليمنية التي حشدتها السعودية إلى الرياض معاناة اليمنيين الذين يكابدون حياة معيشية قاسية في ظل غياب معظم الخدمات العامة وأزمات متفاقمة في الوقود والكهرباء والمياه مع تفشي فيروس كورونا، في الوقت الذي تم إطلاق أيادي مليشيات غير شرعية مثل المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً، قوضت عمل المؤسسات العامة.
ولم يكتف المتصارعون بتجاهل أوضاع اليمنيين الصعبة بل اتجهوا نحو ترسيخ تجزئة العملة المحلية إذ أصبح الريال اليمني في العاصمة المؤقتة عدن بسعر صرف، وفي العاصمة صنعاء بسعر آخر وكل طرف له أوراقه النقدية سواء القديمة أو الجديدة، واندفعوا نحو شرعنة تقسيم الثروات والموارد حسب مناطق السيطرة وتحويل هذا الوضع المؤقت إلى وضع دائم.
ويسود سخط عارم في الشارع اليمني جراء استمرار التدهور المعيشي بوتيرة عالية منذ نهاية العام الماضي واشتداد الصراع بين مختلف الأطراف اليمنية مع التركيز على الورقة الاقتصادية كساحة رئيسية لحرب جديدة مركبة على أكثر من مستوى، وسط انشغال التحالف السعودي الإماراتي بتنفيذ أهدافه التي يصفها مراقبون بأنها مشبوهة في مختلف المناطق وخاصة المحافظات الشرقية لليمن بشكل رئيسي في المهرة وسقطرى وحضرموت.
وبعد ما يزيد على خمس سنوات حرب بدأ يتشكل في اليمن ما يشبه "اقتصاد الطوائف"، كما يرى الخبير الاقتصادي ياسين القاضي، إذ "تسعى اتفاقيات، وخصوصاً "اتفاق الرياض" الذي يصفه بالمشوه، لشرعنتها بناءً على المعطيات السياسية والاقتصادية المستحدثة على أرض الواقع، حسب تعبير القاضي.
وأضاف: لقد عمل التحالف السعودي والإماراتي على تقويض أي وجود للدولة اليمنية بعد أن أضعفت الحكومة المعترف بها دولياً وعدم تمكينها من إدارة المناطق التي من المفترض أنها خاضعة لسيطرتها وحرمت من إنتاج وتصدير النفط والغاز أهم مورد سيادي يمني والذي يساهم بما نسبته 70% من الموازنة العامة للدولة في اليمن، بينما استهدف بالقصف كل ما يمت للدولة والاقتصاد بصلة في مناطق سيطرة الحوثيين.
ويوضح القاضي لـ"العربي الجديد"، أن الواقع الذي سعى التحالف لفرضه منذ بداية الحرب في اليمن، يتمثل في تدمير العملة ومن ثم تجزئتها، بحيث أصبحت كل مجموعة محافظات لديها عملتها الخاصة، في مناطق سيطرة الحوثيين حيث يتم تداول العملة القديمة، بينما المطبوعة حديثا في مناطق الحكومة، فيما تغرق سقطرى والمهرة وحضرموت وبعض المناطق الشرقية والساحل الغربي لليمن بالدرهم الإماراتي والريال السعودي.
وتؤكد مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد"، إصرار الفريق المفاوض التابع للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً في المباحثات الدائرة في الرياض على موقفه في تثبيت الأمر الواقع الذي فرضه بإعلانه "الإدارة الذاتية" على عدن ومحافظات جنوب اليمن، والتحكم بمختلف المؤسسات الحكومية الإيرادية ومنها ميناء عدن وبلحاف وتقاسم الأموال من العملة الورقية الجديدة.
ويشير القاضي إلى ما فرضه مؤخراً محافظ حضرموت بالتحكم بموارد النفط من الحقول المنتجة في هذه المحافظة الشرقية، إضافة إلى خروج إيرادات سيادية عن السيطرة الحكومية مثل إيرادات ميناء المخا في تعز (جنوب غرب)، وإدارة الحوثيين لنحو 8 محافظات في شمال اليمن منها مؤسسات الدولة في صنعاء والتحكم بموارد رئيسية من جمارك وضرائب وميناء الحديدة وإيرادات الوقود المستوردة عبر هذا الميناء.
تقسيم الإيرادات والعملة
استهجن مصدر مصرفي مسؤول في البنك المركزي اليمني فضل عدم ذكر اسمه، تغاضي السلطات السعودية المتواجدة في عدن جنوب اليمن عن تصرفات المجلس الانتقالي ونهبه لموارد حكومية سيادية كالضرائب والجمارك والأموال التابعة للبنك والمخصصة لصرف رواتب الموظفين المدنيين.
وكشف المصدر في حديث لـ"العربي الجديد"، عن حصار خانق يتعرض له البنك المركزي خلال الفترة الأخيرة، من قبل بعض التشكيلات العسكرية التابعة للمجلس المدعوم إماراتياً وأمام أنظار القوات السعودية المحيطة بالبنك والذين يشير صمتهم إلى تواطؤ واضح مع هذه التصرفات التي يتم استخدامها كورقة ضغط لمساومة الحكومة الشرعية في المفاوضات الدائرة في الرياض.
وكشفت مصادر مطّلعة لـ"العربي الجديد" عن خلافات واسعة بين طرفي الحوار في الرياض حول الوزارات السيادية وبعض المناصب في السلطات المحلية، فالمجلس الانتقالي الانفصالي يصر على استمرار الإدارة الذاتية، وهو ما ترفضه الحكومة رفضا قاطعا، موضحة أن كل طرف يسعى إلى انتزاع أكبر مكاسب ممكنة والسيطرة على مصادر الإيرادات.
وأدت الحرب إلى تهاوي سعر العملة المحلية بل وأصبح هناك سعران لها إذ إن سعر الصرف في مناطق الحكومة يصل إلى 765 ريالا للدولار الواحد، وفي مناطق الحوثيين يبلغ نحو 598 ريالا للدولار. والبنك المركزي يعمل برأسين الأول في عدن بعد نقله من قبل الحكومة في سبتمبر/ أيلول 2016، مع بقاء بنك صنعاء تحت إدارة الحوثيين، ما تسبب في اختلال واضح في إدارة السياسة النقدية والمصرفية التي تتحكم بسوق العملات في كلا الجانبين.
تجاهل الشارع
في الوقت الذي يجلس طرفا الشرعية على طاولة الحوار في الرياض لمناقشة اتفاق مشوه يفضي إلى القضاء على ما تبقى من مؤسسات الدولة اليمنية والاقتصاد الوطني، يناور كل طرف لتحقيق المزيد من المكاسب المتمثلة بالمناصب والامتيازات الشخصية، مع إغفال وضعية 20 مليون يمني قالت الأمم المتحدة الأسبوع الماضي إنهم في دائرة الجوع الشديد مع اقتراب خطر المجاعة الشاملة.
وأفاد المواطن سعيد البيحاني، من سكان المنصورة غرب عدن، بأنه لم يستلم راتبه للشهر الثاني على التوالي ويعيش في ظروف صعبة في ظل أفق مسدود ووضع مأزوم انعدمت معه جميع الخيارات في الحياة والعمل.
وأضاف البيحاني لـ"العربي الجديد"، أنه حاول البحث عن عمل ولم يجد، إذ تشكو جميع قطاعات الأعمال من التدهور في ظل ضرائب جديدة تفرضها سلطات "الإدارة الذاتية" للمجلس الانتقالي المدعوم إماراتياً.
ويغيب الملف الاقتصادي ومعيشة الناس المضنية عن مفاوضات الرياض بينما يطغى الشق السياسي عليها وتشكيل حكومة جديدة مناصفة بين الشرعية اليمنية بقيادة الرئيس عبدربه منصور هادي، والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً الذي يرفع شعار الانفصال منذ انقلابه العسكري في أغسطس/اَب 2019، وإعلانه ما يسمى بالإدارة الذاتية على عدن العاصمة المؤقتة للحكومة اليمنية والمحافظات الجنوبية في إبريل/نيسان الماضي.
ويؤكد مواطن من سكان محافظة أبين ويعمل في الزراعة فضل عدم ذكر اسمه، أن الوضع المعيشي أصبح صعباً للغاية عليهم، حيث لا يستطيعون العمل في مزارعهم بسبب التوترات والمواجهات المسلحة الأمر الذي أفقدهم كذلك وفق حديثه لـ"العربي الجديد"، الأسواق التجارية التي يرسلون محاصيلهم ومنتجاتهم الزراعية إليها لبيعها في ما يشبه الحصار المفروض عليهم كونهم من المحافظة التي ينتمي إليها الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي وأغلب القادة العسكريين في الشرعية خصوم المجلس الانتقالي الانفصالي.
ويعيش نحو 600 ألف موظف حكومي للعام الرابع على التوالي في معاناة قاسية بسبب توقف مرتباتهم وانقطاع السبل بهم لعدم وجود أي مصادر دخل أخرى تعينهم على تلبية احتياجاتهم المعيشية، إذ يعيلون أسراً يقدر عدد أفرادها بنحو 5 ملايين فرد.
ودمر قصف طيران التحالف، عددا من المدن اليمنية، وألحق أضراراً بالغة في البنية التحتية وتدهورا حادا بمنظومة الخدمات الأساسية وخاصة خدمات المياه والكهرباء والصحة والتعليم، إضافة إلى تشريد نحو ثلاثة ملايين نازح داخل البلاد. ويرى نبيل عبد القادر من مركز تنمية الصادرات (حكومي)، أن اليمن لم يشهد مثل هذا التدهور المريع مع فقدان سبل العيش الممكنة وانسداد مصادر الدخل خصوصاً لفئات إنتاجية رئيسية مثل المزارعين والصيادين مع عدم إغفال الموظفين المدنيين.
ويشير إلى تعمد التحالف السعودي الإماراتي محاصرة اليمنيين وتضييق سبل العيش عليهم والذي تمثل جزء كبير منه في إغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية وبالتالي انهيار الصادرات خصوصاً النفطية والغازية والزراعية والسمكية والذي أدى بدوره إلى انهيار الأمن الغذائي في اليمن.
تنامي الأزمات
يشهد اليمن انهيارا متسارعا للأمن الغذائي لعدة أسباب منها الحرب والصراع الدائر وانكماش النشاط الاقتصادي وارتفاع الخسائر التراكمية في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي.
كما قُدر تراجع ناتج قطاع الزراعة والأسماك بحوالي 32.8% متأثراً ضمن عوامل أخرى بارتفاع أسعار الوقود وتكاليف مدخلات الإنتاج الزراعي ومحدودية الوصول إلى مناطق الصيد السمكي، الأمر الذي أدى لفقدان سبل العيش وتقليص فرص العمل والدخل لشريحة كبيرة من السكان، وفق تقارير حكومية.
بدوره، يقول الباحث الاقتصادي منير القواس، إن "جميع الأطراف اليمنية تتصارع تحت إشراف تحالف السعودية والإمارات، على انتزاع أرزاق اليمنيين ومصادر عيشهم مع إغفال هذا الصراع بشكل متعمد أوضاع المواطنين الاقتصادية، بينما يتم بحث الملفات الأخرى السياسية والعسكرية على طاولة الحوارات في العاصمة السعودية الرياض أو مع الحوثيين، لذا نشهد هذا التنامي المضطرد بالأزمات من التضخم وارتفاع الأسعار وتوقف الرواتب وانعدام الخدمات العامة وانهيار العملة وانخفاض المعروض السلعي".
وحسب القواس لـ"العربي الجديد"، فإن الصراع أصبح يتركز أيضاً مع الحوثيين في الجانب الاقتصادي خصوصاً حول الوقود والذي تحول استيراده إلى ورقة ضغط يحاول كل طرف استغلالها ضد الطرف الآخر، لذا نشاهد هذه الأزمة الطاحنة في المشتقات النفطية والتي تفرعت عنها عديد الأزمات، بالإضافة إلى أزمة رواتب الموظفين المدنيين ومشاكل مختلف الأعمال والقطاعات الاقتصادية الإنتاجية الأخرى.