28 مايو 2017
"إصلاحات مؤلمة".. لمن؟
أغلب القطع الصحافية التي روّجت البرامج التقشفية، ثمّ مشاريع الخصخصة في دول الخليج، تُشير، في جزء منها، إلى أنه "لا بُدّ من الإصلاح في دول الخليج، ولا بُدّ للإصلاح من حدوث تغيّر اجتماعي مؤلم". لكن العبارة تقِف هنا، ولا تُجيب على السؤال: مؤلم لمن؟
إضراب عمال القطاع النفطي في الكويت، في منتصف إبريل/ نيسان الماضي، دفع هذه المسألة إلى الواجهة، فبينما استسلم موظفو الحكومة في باقي دول الخليج للإجراءات التقشفية المؤلمة للمواطنين التي قلّصت معدّلات التوظيف وبدلات الموظفين ومميزات مالية كثيرة، واجهت حكومة الكويت صعوبةً في تطبيق إجراءات مشابهة، لسببٍ أساسٍ، هو وجود تاريخ طويل من العمل النقابي وحالات الإضراب في الكويت، من أجل الدفاع عن موقف العمّال ومطالبهم، كما يذكر أحد تقارير "رويترز". أما في باقي دول الخليج التي استطاعت تمرير إجراءات التقشف، من دون اعتراضٍ حقيقي من المواطنين، فيذكر تقرير "الثابت والمتحول" لمركز الخليج لسياسات التنمية لعام 2014 أن قوانين العمل فيها لا تخرج عن حالتين: السماح بالوجود الصوري للنقابات العمالية الخاضعة لسيطرة وزارة العمل والعاجزة تماماً عن ممارسة أي ضغوط منظمة كالإضراب (وهذا هو الحال في البحرين وعُمان)، أو المنع التامّ لكل عملٍ نقابيّ، كما هو الحال في قطر والإمارات والسعودية. وفي السعودية تحديداً، يتمّ التعامل مع محاولات الإضراب باعتبارها تهديداً أمنياً، لا تباشرهُ وزارة العمل، بل وزارة الداخلية التي أكّدت، قبل عامين، اختصاصها بالمسألة، وتولت وضع قواعد جديدة للتعامل مع العمال المضربين. حق العمال في تأسيس النقابات وتنظيم الإضرابات في الكويت واحدة من المزايا القليلة الباقية من دستور الكويت. وأظهرت طريقة تعاطي منظومة الحكم في الكويت مع الإضراب إلى أيّ حدّ يمكنها أن تذهب من أجل إفشاله، أما ما أعلنه مجلس الوزراء الكويتي، في أثناء الإضراب، من إمكانية الاستعانة بعمالة نفطية من السعودية والبحرين، فيُظهر إلى أيّ حدّ تحرص حكومات دول الخليج على التكاتف، ليس فقط على استمرار تدفق النفط واستقرار الإنتاج، بل، وبالقدر نفسه، على حصار الحراك العمّالي الوحيد في الخليج.
مع انخفاض أسعار النفط وأعباء ترهل الجهاز الحكومي وتضخّم النفقات، لا تخشى الحكومات
الخليجية، في مرحلتها هذه، من اعتماد تغييرات "مؤلمة" للمواطنين، كأن تتّخذ إجراءات تقشفية مع التبشير بعملية خصخصة للقطاعات الحكومية الضخمة، كالتعليم والصحة (التي يعتمد على خدماتها المجانية أغلبية المواطنين، وتعمل فيها أعدادٌ كبيرة منهم)، كحلّ لمشكلة شُحّ الإيرادات وتنامي مدفوعات الرواتب لموظفي الحكومة، من أجل تحويل هؤلاء إلى موظفي قطاع خاص، بشروط مختلفة قليلاً أو كثيراً عن شروط العمل الحكومي. تملك هذه الحكومات الجرأة اللازمة للقيام بمثل هذه التغييرات الواسعة والعميقة و"المؤلمة" للمواطنين في أوضاع العمل والعمّال في البلاد، لكن هذه الحكومات لا تزال تُجمع، وتُصرّ، وبلا استثناءاتٍ حقيقية، على الخوف من وجود نقاباتٍ عمّالية على أرضها، ورفض أي تغيير في أيّ بنيةٍ قانونيةٍ، قد يُفضي إلى إعطاء العمال حقّ تكوين النقابات والاتحادات، وتنظيم جهودهم، وحماية مصالحهم أمام الـمُشغّلين الحاليين والمستقبليين الذين تأتي في مقدمتهم الحكومات نفسها، لأن في ذلك تنازلاً سيؤلم الحكومات التي تعرف جيداً النتائج المترتبة على وجود العمل النقابي واتحادات العمال، وقدرة هذه الكيانات على التحول إلى قوة اجتماعية ومواجهة قراراتها وسياساتها وسلطتها التي طالما انفردت بها. ترويج الحكومات الخليجية الخصخصة القادمة، بوصفها ضرورة إصلاحية، مع تجاهل تامّ لأبعاد الإصلاح الأخرى وثيقة الصلة بالعمّال، مثل حقّ المواطنين في تأسيس النقابات العمالية، نموذج صغير ومثالي للتعرّف على تركيبة "الإصلاحات المؤلمة" التي تروّجها الحكومات، إذ إنها تفترض أن يكون القرار من نصيبها، والألم من نصيب المواطنين.
إذا كان تشغيل الحكومة للمواطنين مباشرة أحد أوجه الرعاية الأبوية التي لم تعد الدول قادرةً على تحمل كلفتها، فإن إنهاء هذه العلاقة يجب أن يكون من الطرفين، لا من طرف واحد، إذ لا يمكن للحكومة أن تتوقف عن تشغيل المواطنين ورعايتهم مادياً، وربما تفرض عليهم أداء الضرائب، لكنها تتوقع منهم أن يتصرّفوا كأبناء مطيعين، لا يعترضون على السياسات الاقتصادية العامة، أو سياسات القطاع الخاص، لا يتضامنون فيما بينهم، ولا يضربون عن العمل.
@Emanmag
إضراب عمال القطاع النفطي في الكويت، في منتصف إبريل/ نيسان الماضي، دفع هذه المسألة إلى الواجهة، فبينما استسلم موظفو الحكومة في باقي دول الخليج للإجراءات التقشفية المؤلمة للمواطنين التي قلّصت معدّلات التوظيف وبدلات الموظفين ومميزات مالية كثيرة، واجهت حكومة الكويت صعوبةً في تطبيق إجراءات مشابهة، لسببٍ أساسٍ، هو وجود تاريخ طويل من العمل النقابي وحالات الإضراب في الكويت، من أجل الدفاع عن موقف العمّال ومطالبهم، كما يذكر أحد تقارير "رويترز". أما في باقي دول الخليج التي استطاعت تمرير إجراءات التقشف، من دون اعتراضٍ حقيقي من المواطنين، فيذكر تقرير "الثابت والمتحول" لمركز الخليج لسياسات التنمية لعام 2014 أن قوانين العمل فيها لا تخرج عن حالتين: السماح بالوجود الصوري للنقابات العمالية الخاضعة لسيطرة وزارة العمل والعاجزة تماماً عن ممارسة أي ضغوط منظمة كالإضراب (وهذا هو الحال في البحرين وعُمان)، أو المنع التامّ لكل عملٍ نقابيّ، كما هو الحال في قطر والإمارات والسعودية. وفي السعودية تحديداً، يتمّ التعامل مع محاولات الإضراب باعتبارها تهديداً أمنياً، لا تباشرهُ وزارة العمل، بل وزارة الداخلية التي أكّدت، قبل عامين، اختصاصها بالمسألة، وتولت وضع قواعد جديدة للتعامل مع العمال المضربين. حق العمال في تأسيس النقابات وتنظيم الإضرابات في الكويت واحدة من المزايا القليلة الباقية من دستور الكويت. وأظهرت طريقة تعاطي منظومة الحكم في الكويت مع الإضراب إلى أيّ حدّ يمكنها أن تذهب من أجل إفشاله، أما ما أعلنه مجلس الوزراء الكويتي، في أثناء الإضراب، من إمكانية الاستعانة بعمالة نفطية من السعودية والبحرين، فيُظهر إلى أيّ حدّ تحرص حكومات دول الخليج على التكاتف، ليس فقط على استمرار تدفق النفط واستقرار الإنتاج، بل، وبالقدر نفسه، على حصار الحراك العمّالي الوحيد في الخليج.
مع انخفاض أسعار النفط وأعباء ترهل الجهاز الحكومي وتضخّم النفقات، لا تخشى الحكومات
إذا كان تشغيل الحكومة للمواطنين مباشرة أحد أوجه الرعاية الأبوية التي لم تعد الدول قادرةً على تحمل كلفتها، فإن إنهاء هذه العلاقة يجب أن يكون من الطرفين، لا من طرف واحد، إذ لا يمكن للحكومة أن تتوقف عن تشغيل المواطنين ورعايتهم مادياً، وربما تفرض عليهم أداء الضرائب، لكنها تتوقع منهم أن يتصرّفوا كأبناء مطيعين، لا يعترضون على السياسات الاقتصادية العامة، أو سياسات القطاع الخاص، لا يتضامنون فيما بينهم، ولا يضربون عن العمل.
@Emanmag