يتحدّث متخصّصون عن "إدمان الشاشات" لدى الأطفال والمراهقين، في حين يرى آخرون في الأمر مبالغة ويعدّونه مجرّد استخدام مفرط لا بدّ من أن يضبطه الأهل، من دون أن ينفوا احتمال "الإدمان" في حالات محدّدة.
مشهد أوّل: أمام شاشة التلفزيون في غرفة الجلوس، تتسمّر الصغيرتان. تحدّقان بتلك الشاشة الكبيرة التي اختارها والدهما بذلك الحجم لتستمتعا بالمشاهدة. وتظهر شخصيّات كرتونيّة محبّبة بألوان زاهية، فتجحظ عيون الفتاتَين اللتَين لم تبلغا الثالثة من عمرهما بعد. تنادينهما الوالدة، وقد حان وقت الاستحمام، غير أنّهما لا تأتيان بأيّ ردّ فعل. كأنّهما تعرّضتا لتنويم مغنطيسيّ.
مشهد ثانٍ: يمزّق الصبيّ الذي بلغ للتوّ عامه الخامس ورقة الهديّة المستطيلة التي قدّمها له والداه. جهاز لوحيّ! تماماً مثلما تمنّى... تماماً مثلما وعداه. يقفز فرحاً ويشغّله سريعاً ويبدأ باستكشاف الألعاب التي يحويها. ينسى رفاقه الصغار الذين يشاركونه عيد ميلاده وكلّ الهدايا الأخرى التي تلقّاها. ويغرق في لعبته المفضّلة على جهازه الجديد، في إحدى زوايا المكان حيث أقيم حفله.
مشهد ثالث: في إحدى الأمسيات، يبدو صغير العائلة البالغ من العمر تسعة أعوام منغمساً في هاتفه الذكيّ. حصل عليه بعد نجاحه في الفصل الأوّل من العام الدراسيّ الجاري. شقيقته المراهقة ووالدته منغمستان كذلك، كلّ واحدة منهما بهاتفها الذكيّ الخاص. ثلاث ساعات انقضت والجميع على هذه الحال. صغير العائلة يمضي في دردشة مع أحد "الأصدقاء الافتراضيّين". هو تعرّف إليه على موقع "فيسبوك"، ويبدو أنّهما يتشاركان الاهتمامات نفسها. على أقلّ تقدير، هذا ما يظنّه هو.
مشهد رابع: إنّه منتصف الليل. في غرفة النوم التي صارت له وحده أخيراً، بعد سفر شقيقه الأكبر، ما زال المراهق، ابن الثالثة عشرة، أمام شاشة جهاز الكمبيوتر، يخوض مرحلة جديدة من مراحل تلك اللعبة الإلكترونيّة الرائجة. غداً، يوم دراسيّ عاديّ، لكنّه لا يأبه لذلك. "المعركة" محتدمة. ربّما يفوّت الدراسة غداً، مثلما فعل من قبل. سوف يجد عذراً مناسباً يقنع به والدَيه، لكنّه لا يستطيع الانسحاب من "المعركة" في هذه المرحلة الحرجة.
ربّما لا تختصر تلك المشاهد الأربعة الصورة كاملة، غير أنّها تشير إلى بعض من الواقع. ثمّة ما هو مقلق اليوم. دراسات عدّة، أوروبيّة بمعظمها، وجدت في ذلك "سلوكاً إدمانيّاً" وأخرى سمّت الأمر بصراحة "إدمان شاشات". وفي ما هو أبعد من ذلك، ذهبت متخصّصة بريطانيّة في شؤون الإدمان، ماندي ساليغاري، إلى تشبيه الجهاز اللوحيّ أو الهاتف الذكيّ بـ"غرام من الكوكايين".
التلفزيون... الشاشة الأولى (حسين بيضون) |
اضطراب نفسيّ
عند سؤاله عن تصنيف الأمر "إدماناً"، يقول رئيس قسم الطب النفسيّ في الجامعة اللبنانيّة، الدكتور رمزي حدّاد، لـ"العربي الجديد"، إنّ في الأمر حقيقة ما، موضحاً أنّ "إدمان الألعاب الإلكترونيّة سوف يُدرَج في قائمة الاضطرابات النفسيّة الخاصة بالتصنيف العالميّ للأمراض، في مراجعته الحادية عشرة، المتوقّع صدوره عن منظمة الصحة العالميّة قريباً، في العام الجاري". لكنّه يلفت إلى أنّ "المعنيّ بهذا الاضطراب ليس كلّ شخص يقضي وقتاً طويلاً أمام جهاز إلكترونيّ، فتشخيص الإدمان يستلزم معايير محدّدة"، مضيفاً أنّ المعنيّين بذلك الإدمان هم "المراهقون والبالغون الشباب (12 - 20 عاماً)، خصوصاً، والذكور منهم أكثر من الإناث". ويتابع حدّاد أنّه "لا بدّ للأهل عند التنبّه إلى التأثير السلبيّ لتلك الأجهزة على حياة أبنائهم المراهقين، من قبيل فقدانهم السيطرة على حياتهم وتبدّل سلوكيّاتهم لجهة ابتعادهم عن الأصدقاء والمحيط في ما يشبه عزلة ما ويتراجع أداؤهم المدرسيّ، أن يلجأوا إلى استشارة متخصّص في علم النفس. واللجوء إلى متخصّص في شؤون الإدمان هو الأفضل، إذا وُجِدَت حاجة إلى ذلك".
ويشدّد حدّاد في السياق على أنّ "الحلّ ليس في الامتناع الكليّ عن الإنترنت"، شارحاً أنّ المطلوب هو "التوازن والتحكّم (في الاستهلاك) والابتعاد عن التطبيقات الإلكترونيّة الإشكاليّة"، مضيفاً أنّ ثمّة دوراً أساسيّاً للأهل بالتنسيق مع أهل الاختصاص يقتضي إرساء قواعد تنظّم الوقت المخصّص للعب وتحدّ منه، بالإضافة إلى منع الأجهزة في غرف النوم، مع التوجّه إلى الإكثار من الأنشطة التي من شأنها إلهاء المراهق عن اللعب، وغير ذلك". ويوضح حدّاد أنّ "الإدمان الإلكترونيّ في حال وُجِد، لا يُعَدّ إدماناً ماديّاً بل سلوكيّاً، وهذا ليس أقلّ سوءاً من الماديّ". ويرى ضرورة أن "يعمل الأهل على وقاية أولادهم من ذلك، لا سيّما المراهقين الذين يكونون في سنّ حرجة، لذلك ثمّة توصيات وإرشادات حتى يتمكّنوا من ذلك"، مشيراً إلى أنّ "الأمر يتعلّق برسم حدود للأبناء". ويتحدّث عن "أنواع عدّة من الإدمان الإلكترونيّ، منها إدمان الألعاب الإلكترونيّة إلى جانب القمار الإلكترونيّ وشبكات التواصل الاجتماعيّ والجنس الافتراضيّ والهواتف الذكيّة وغيرها"، موضحاً أنّ هذه الأنواع وإن كانت شائعة، إلا أنّها لن تُدرَج في التصنيف العالميّ للأمراض هذا العام، نظراً إلى عدم توفّر الدراسات والأبحاث الوافية حولها".
ويلفت حدّاد إلى أنّ "الإدمان الإلكترونيّ قد يرتبط في بعض الحالات باضطرابات نفسيّة، من قبيل الاكتئاب والقلق الاجتماعيّ والوسواس القهريّ واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط وغيرها". ويشرح في سياق متّصل أنّ "المراهق يشعر بحاجة إلى الاستقلالية عن عالم الأهل، بالتالي قد يجد في العالم الافتراضي وألعاب الفيديو مهرباً من مواجهة المصاعب الحقيقيّة والنزاعات الواقعيّة وبديلاً من التواصل مع أهله. وفي بعض الأحيان، قد يكون إدمانه ناتجاً من علاقات عائليّة ضعيفة بين أفراد أسرته أو عن نزاعات فيها أو عن غياب القواعد والطقوس والعادات العائليّة التي قد تثنيه عن الإفراط في اللعب لو كانت متوفّرة".
كلّ حالة على حدة
من جهتها، تتحفّظ المتخصّصة في علم نفس الأطفال والمراهقين والمعالجة النفسيّة في دائرة الطبّ النفسيّ التابعة للمركز الطبيّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، كارلا نجم، على مصطلح "إدمان الشاشات". وتقول في حديث إلى "العربي الجديد" إنّه "قبل أعوام عدّة، كنّا متخوّفين جداً من هذا الموضوع، لا سيّما مع قضاء الأطفال وقتاً طويلاً أمام الشاشات. كان ثمّة تخوّف من بين مخاوف أخرى تتعلّق بتأثيرات سلبيّة على نموّ الطفل عاطفيّاً أو إدراكيّاً أو اجتماعيّاً. ولعلّ التخوّف الأكبر كان من ألعاب الفيديو (الألعاب الإلكترونيّة)، ومن العدوانيّة التي تنطوي عليها. وقبل تلك الألعاب، مثّل التلفزيون موضوع بحث كبير. وصارت دراسات تصدر لتشير إلى تأثيرات سلبيّة وإلى ارتباط سيّئ بين ألعاب الفيديو العدوانيّة (العنيفة) وبين اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط أو عدم التركيز أو فرط النشاط. كذلك أُعدّت دراسات حول تأثير الجهاز اللوحيّ على سبيل المثال على التفاعل الاجتماعيّ لدى الأطفال، وغيرها من أبحاث". لكنّها توضح أنّ "أخيراً، أُعدّت مراجعة لكلّ الدراسات الصادرة في الماضي، بيّنت أنّ الأدلّة ليست جازمة مثلما كان متوقّعاً وأنّ تأثير الشاشات في المجمل ليس بالسلبيّة التي نظنّها، وأنّ الأمر لا يتسبّب في كلّ تلك المشكلات"، مشدّدة على أنّ "ثمّة عوامل مختلفة وكثيرة تدخل في هذه العمليّة وتؤدّي دورها في تأثير الشاشات على الأطفال".
وتشير نجم إلى أنّ "مبادئ توجيهيّة عدّة كانت قد صدرت حول كيفيّة تعامل الأهل مع هذا الموضوع، من قبيل: في أيّ سنّ نسمح لطفلنا بالتعامل مع شاشة، سواء أكانت شاشة تلفزيون أو جهازاً لوحيّاً أو غيرهما، وكم من الوقت. لكنّ تلك المبادئ التوجيهيّة لم تَعد معتمدة اليوم مثلما كانت في السابق". وتشرح أنّ "التركيز صار على: كم من الوقت يُعَدّ زائداً عن الحدّ؟ وكيف نعلم متى يجب البدء بوضع حدود؟ ما هي الإشارات التي تنبئنا بأنّ الأمر لم يعد صحيّاً لطفلنا؟"، مشدّدةً على "ضرورة التعاطي مع الموضوع بحسب كلّ حالة على حدة وكلّ عائلة على حدة، بدلاً من اعتماد مبادئ توجيهيّة عامة".
رفيقه الدائم (Getty) |
"تنويم مغناطيسيّ"
عن حالة الصغيرتَين اللتَين تبدوان وكأنّهما تعرّضتا لتنويم مغناطيسيّ أمام شاشة التلفزيون، تقول نجم إنّ "الأمر ليس كذلك بقدر ما يشير إلى أنّهما محفَّزتان جدّاً بما تشاهدانه لدرجة أنّ كلّ ما يدور حولهما غير قادر على إثارتهما بالدرجة نفسها. فإذا كان ما تشاهدانه يشتمل على حركة وألوان وأصوات محفّزة للأطفال، فإنّ انتباههما كلّه سوف ينصبّ على ذلك ولا تعودان قادرتَين على رؤية كلّ ما عداه". وتشرح نجم أنّ "عمليّة التركيز لدى الأطفال الصغار لا تسمح لهم بأكثر من مهمّة واحدة في الوقت نفسه. هذا أمر طبيعيّ، نظراً إلى أنّ أدمغتهم لم تنمُ كفاية بعد. على سبيل المثال، قد يلهو طفل صغير بأيّ لعبة (غير إلكترونيّة) وتقف والدته إلى جانبه وتناديه من دون أن يتفاعل معها أو يسمعها أو يتنبّه لوجودها، خصوصاً إذا كانت اللعبة مشوّقة بالنسبة إليه". تضيف نجم: "لكنّنا نعود لنشدّد على أنّ الأمر يرتبط بكل حالة على حدة. ثمّة أطفال مستهلَكون جدّاً من قبل التلفزيون. ونتحدّث عن التلفزيون أكثر من الشاشات الأخرى لأنّ الأطفال يكونون في حالة ما يُسمّى نشاطاً سلبيّاً، أي أنّهم خاملون يتلقّون معلومات من دون أن يتفاعلوا معها. فإذا كان هؤلاء يعانون مشكلات في الانتباه، وغير قادرين على القيام بأكثر من مهمّة واحدة، وكانوا في الأساس يعانون مشكلة في نموّهم، ولا ينخرطون في نشاطات تفاعليّة، من السيّئ أن ندعهم يتسمّرون أمام شاشة التلفزيون لفترات طويلة".
وتشدّد نجم على أنّ "الناس جميعاً وليس الأطفال فقط، عندما يُطلب منهم التركيز على أمر معيّن، يصيرون غير قادرين على رؤية ما حولهم. بالتالي لا يمكن الحديث هنا عن إدمان. عندما نقول إنّ الأمر يتسبّب في الإدمان، لا بدّ من توفّر أمور محدّدة تتداخل مع بعضها البعض في حياة الطفل اليوميّة، من قبيل الاستخدام المفرط للشاشات، فلا يستطيع البقاء من دونها، ويضطرّ إلى الكذب ليتمكّن من ذلك، وتتضرّر دراسته من جرّائه، ويؤثّر الأمر على تفاعله مع أفراد العائلة وعلى تفاعله الاجتماعيّ عموماً. وفي ما يتعلّق بألعاب الفيديو مثلاً، يلجأ إليها في السرّ، ويسرق حتى يتمكّن من اللعب بها، ويتشاجر مع الناس في سبيلها، وتظهر لديه حاجة ملحّة للعب طوال الوقت، ولا يحبّ القيام بأيّ أمر آخر، ولا يشعر بالسعادة ولا بالاكتفاء إلا بذلك. عندها، قد نفكّر بالإدمان".
وتحمّل نجم الأهل "المسؤوليّة"، قائلة: "لا بدّ لهم من أن يتنبّهوا لاستخدامهم - هم - الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعيّ. فالأهل الذين يقضون الوقت كلّه منشغلين بفيسبوك وإنستغرام مثلاً، لا يستطيعون الطلب من أولادهم الابتعاد عن الشاشات وتأنيبهم كلّما خالفوهم الرأي. الأطفال يتعلّمون أكثر ممّا يراقبونه ويشاهدونه وليس ممّا يُقال لهم".