"أوفسايد الخرطوم": شهادة وثائقية حيوية

30 أكتوبر 2019
مروى زين: شهادة سينمائية (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
الصُور الفوتوغرافية، بالأسود والأبيض، الظاهرة في الدقائق الأخيرة من "أوفسايد الخرطوم" (2019) للسودانية مروى زين، لا تقلّ أهمية عن النص السرديّ في توثيقها السينمائي حكاية شابات سودانيات، يرغبن في ممارسة رياضة كرة القدم، في بلدٍ يتسلّط عليه حكم عسكري، متحالف مع قوى إسلامية متشدّدة. صُور فوتوغرافية تستعيد زمنًا سابقًا، يعكس شيئًا من مضمون خفيّ لفيلمٍ، يغوص في راهنٍ يواجه استحقاقًا جماعيًا لاحقًا، يتمثّل في "ثورة 19 ديسمبر" (2018) ضد الحكم نفسه، مع أنّه (الفيلم) منبثقٌ من وقتٍ سابق عليها (الثورة).

الصُور الفوتوغرافية قليلة العدد، من دون أن تنتقص القلّة من أهمية ما تمثّل وتعكس وتستعيد: فريق السودان النسائي لكرة السلّة (1976)؛ وصال موسى حسن، مُصوّرة سينمائية سودانية (1969)؛ نساء السودان في "مظاهرات أكتوبر" (1964)؛ فرقة البلابل السودانية، المكوّنة من 3 أخوات هنّ آمال وهادية وحياة طلسم (سبعينيات القرن الـ20)؛ وفد السودان الرياضي يمثّل السودان في المكسيك (1968).

هذا ليس عابرًا. عرض الصُوَر الفوتوغرافية، بالتسلسل المذكور، يُقدّم نماذج حيّة من تاريخ قريب للسودان، بطلاتها (النماذج) نساء يمتلكن حرية اشتغالات فنية ورياضية، وينتجن أفعالاً تُصبح جزءًا أساسيًا من ذاكرة وتاريخ. والصُور تلك، إذْ تبدو لوهلة أنها تُكمِّل النص السردي لـ"أوفسايد الخرطوم" ـ الحاصل على تنويه خاص في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية، في الدورة الـ9 (4 ـ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" (السويد) ـ تتحوّل سريعًا إلى تذكير بتأسيسٍ حاصل سابقًا، في الاجتماع والثقافة والسلوك والعيش، في مرحلةٍ (ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته تحديدًا)، تشهد انقلابات وتبدّلات، عربيًا ودوليًا.



في مقابل الصُوَر الفوتوغرافية تلك، المبثوثة في نهاية "أوفسايد الخرطوم"، هناك تعبيرٌ واضح عن راهنٍ، يُنجَز الفيلم في ظلّه: "تحت الحكم العسكري الإسلامي الحالي في السودان، لم يكن مسموحًا للنساء لعب كرة القدم، ولم يكن مسموحًا لنا بالتصوير أيضًا. ولكن..." (بداية الفيلم). هذا كافٍ لتبيان الراهن، ومع الصُور تلك ينكشف التناقض الكبير بينه وبين ماضٍ غير بعيد كثيرًا. يُضاف كلامٌ تقوله الشابات في مواجهتهنّ تحدّيات المنع والرفض والحصار، رغم منافذ "تتسلّلن" منها، تمامًا كعنوان الفيلم، و"الأوفسايد" في رياضة كرة القدم هو "التسلّل". فمقابل عدم السماح بلعب كرة القدم، هناك "ولكن..."؛ وفي مقابل عدم السماح بالتصوير، هناك "ولكن...". والمفردة (ولكن) تتأكّد بلعب كرة القدم، رغم مصاعب جمّة وتحدّيات قاسية؛ وبإنجاز الفيلم، المنتهي بتلك الصُور الفوتوغرافية، كردّ مباشر وواضح على المنع والرفض، وكتعبيرٍ عن بهاء ذاكرة، وجمال تاريخ، وحيوية واقعٍ.

والمنع، بالنسبة إلى رياضة كرة القدم، يبرز في تسجيل صوتي لمسؤول ديني، يقول إنّ هناك فتوى، "مرجعيتها الدولة الإسلامية"، تقضي بما يلي: "إنّ الرياضة المباحة للمرأة هي التي تصون بها حشمتها. أما كرة القدم، فهي للرجال، ولا تتناسب مع النساء، ويجب أن نحذِّر من كلّ ما يؤدّي إلى إلغاء الفوارق بين الرجل والمرأة، لأنّ ممارسة هذه الرياضة تؤدّي إلى خروجها عن الأنثوية، ويمكنها أن تغرس فيها الغرائز العنفية".

أما منع التصوير، فغير ظاهر بقدر ما أنّ إنجاز الفيلم ظاهر، وهذا كافٍ للقول إنّ التحدّي أكبر من أنْ يَحول دون تحقيق المرتجى. فـ"أوفسايد الخرطوم" مفتوح على حيواتٍ ومشاغل وتفاصيل، مستلّة من وقائع حيّة، ترويها الشابات/ الشخصيات الأساسية (سارة إدوارد إرنست جبارة، ونضال فضل الله، وفاطمة قدال، وإلهام بلاتون، وهالة زكريا)، كلّ بطريقتها ولغتها/ نبرتها وأسلوبها وحركاتها وانفعالاتها، وهنّ جميعًا مدرّسات ولاعبات في الوقت نفسه. أما السخرية، فجزءٌ من بوحهنّ أقوالاً وحكايات؛ وأما التحدّي، فتعبيرٌ ـ مبطّن أو مكشوف ـ عن رفضٍ ومواجهة وحسّ جميل بالنكتة والعيش والحيوية. التاريخ حاضرٌ، ليس فقط في تلك الصُور الفوتوغرافية، بل بكلام ترويه إحداهنّ عن ملهى ليلي، وسهرات جميلة، وعلاقات مفتوحة (ذكريات قديمة مروية على ألسنة أهلٍ، أو ربما ذكريات، بعضها تعرفه الشابات). والراهن حاضرٌ أيضًا، لكن الثورة السودانية الأخيرة غير موجودة (الفيلم مُصوَّر بين عامي 2014 و2018)، رغم أنّ مسارات الشابات ومصائرهنّ غير بعيدة عن فعلٍ ثوريّ، وإنْ يبدو أحيانًا غير مُكتمل.

يرتكز "أوفسايد الخرطوم" ـ الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في "مهرجان السينما الأفريقية" في دورته الـ16، المُقامة بين 26 إبريل/نيسان و4 مايو/أيار 2019 في طريفة، وبين 25 إبريل/نيسان و2 مايو/أيار 2019 في طنجة ـ على هؤلاء الشابات إذًا، من دون التغاضي عن كلّ من يُستشفّ أنّ له دورًا أو قولاً أو تصرّفًا. للسياسة والحرب والانفصال جرحٌ في ذات سارة، المولودة في الجنوب والمُقيمة في الشمال، والرافضة الانفصال بينهما، بتمنّعها عن المشاركة في استفتاء أو انتخاب حول الانفصال. وسارة نفسها تروي أنّ والديها موافِقَان سابقًا على ممارستها رياضة كرة القدم، لكنهما يتساءلان الآن عن جدواها: "إلى أين تأخذك كرة القدم؟". التساؤلات مشروعة، فالانقلابات الداخلية خطرة وحسّاسة، والأزمنة غير متوافقة مع عيشٍ سابقٍ، مترافق وحريةً وانفتاحًا ووعيًا، في الاختيار والسلوك والعلاقة بالذات والآخر.

لعلّ الغليان المعتمل في نفوس وعقول، والمُصوَّر باحتيالٍ ومواربة، يؤدّي إلى ثورة جديدة في السودان، فيكون "أوفسايد الخرطوم" شهادة وثائقية سينمائية شفافة وجميلة، عن أفراد وبيئات ومسارات وأحلامٍ وحياةٍ وقلاقل وارتباكات وخيبات وآمال، منسوجة كلّها سينمائيًا بتوثيقٍ يوحي كأنّه تقليدي، قبل أن ينقلب على ذاته فيتحوّل إلى لغة سينمائية، في التصوير (مروى زين)، وضمنًا في التقطيع والكادرات، والتصوير مفتوح على تخييلٍ يُكمِل شيئًا من التوثيق أو يؤكّده أو يتوازن وإياه في سرد الحكايات والتقاط المشاعر؛ كما في التوليف (محمد عماد رزق) والموسيقى التصويرية (توندي جيجيدي).

غليان يسبق "ثورة 19 ديسمبر"، فيُشكّل "أوفسايد الخرطوم" صورة سينمائية عنه وعن أحوالٍ، بعضها مؤدٍّ إلى تلك الثورة. صورة متماسكة البُنية السردية، بمواظبتها على تمتين الخط الدرامي للحكايات، رغم انفتاح على تاريخ ومرويات ومسالك جانبية، تتكامل والنصّ الأصلي.
المساهمون