"أملاك الغائب" وماركس الفلسطيني

05 يونيو 2016
(أطفال فلسطينيون يلعبون "الكراسي الموسيقية" في "مخيم نهر البارد")
+ الخط -

هناك أشكال من الظلم الجماعي لا يمكن لأي تعويض سياسي أو مالي أو معنوي، يُقدَّم للضحايا، أن يمحو أوجاعها. فقط شرعنة هذا الظلم وإضفاء صفة القانونية والأخلاقية عليه، بوقاحة عالمية تستحيل عهراً، يمكنها أن تكون أكثر إيلاماً من ممارسات هذا الظلم نفسه، لأنها تؤكد، للمرة المليار ربما، صحة ما لا يرغب كثيرون الاعتراف به لكارل ماركس، أي أن القانون هو بالضرورة أداة الأقوياء (رأس المال بمصطلحاته) لفرض السلطة، لا توزيع عادل للحقوق والواجبات داخل المجتمع بين الفرد وسلطة عليا عامة اسمها دولة.

قضية سرقة أراضي الفلسطينيين بعد طردهم على مراحل منذ 1948 تكاد تختصر الحكاية كلها، لو لم يأتِ "قانون أملاك الغائبين" (الذي أقره الكنيست عام 1950 وكان يقتصر تطبيقه داخل الخط الأخضر قبل أن يسري مفعوله على أملاك أهل الضفة الغربية في القدس المحتلة) ليفتح فصلاً تجاوز بشاعة واقع التهجير واللجوء وسرقة الأراضي والعقارات نفسه، لأنّ السجال انتقل معه من حق عودة وتحرير فلسطين وإزالة إسرائيل من الوجود، إلى مكان آخر تماماً، هو إثبات عدم شرعية هذا القانون وظلمه وتنظيم حملات لإقناع "ضمير المجتمع الدولي والعالم"، بأن "القانون" المذكور ليس قانوناً أصلاً، بل إرهاباً بعينه، إلا إن عدنا واقتنعنا مع ماركس بأن هذا هو التعريف الحقيقي للقانون أساساً، أو لقوانين كثيرة على الأقل.

هكذا، تجد في الداخل المحتل عام 1948 وحده، أي ما أصبح "دولة إسرائيل" التي لا تزال بلا دستور للتهرب من ترسيم حدود لهذه "الدولة"، أكثر من 480 قرية فلسطينية هجّرتها العصابات الصهيونية في حرب النكبة. كل هذا من دون احتساب القدس، ولا الضفة الغربية التي صارت نسبة كبيرة من أراضيها، عملياً، ضمن نطاق "دولة إسرائيل" من خلال المستوطنات، المولود الحرام لموضوعنا، أي "قانون الغائبين"، أو تحديداً الابن غير الشرعي لتطبيق هذا "القانون" خارج أراضي الخط الأخضر.

لكن العبقرية الخبيثة للعقل الصهيوني بلغت درجة فتح المجال في محاكم دولة إسرائيل، لدعاوى قانونية يقيمها فلسطينيون ضد تطبيق "القانون" على عقاراتهم وأراضيهم عموماً، وأن تبطل المحاكم تلك، بعض قرارات السرقة بموجب "قانون أملاك الغائبين" وأن تعيد هذه الأملاك لأصحابها الفلسطينيين!

حتى ولو كانت نسبة تلك الدعاوى الفائزة لا تتجاوز الصفر فاصل واحد في المئة مثلاً، إلا أن الخطوة "العبقرية"، بحدّ ذاتها، تنقل القضية أيضاً إلى مكان آخر تماماً؛ صار في عقل الفلسطيني، أو بعض الفلسطينيين على الأقل، قناعة تغذيها منظمات المجتمع المدني، عدوّة القضايا الكبرى تعريفاً، تفيد بأنّ هناك أملا، ولو ضئيلا، باستعادة المُلك، عبر اللجوء إلى السلطة ذاتها التي سرقت هذا المُلك، بلا دم ولا سلاح. خلاصة تعني أمراً واحداً: لا أمل بأي وسيلة أخرى لاستعادة الأرض أو المنزل أو العقار عموماً، عبر اللجوء إلى القوة مثلاً، أو بمصطلح آخر، عبر العنف الثوري.

الصورة النمطية للحاج في جنوب لبنان أو يرموك دمشق أو مخيمات عمّان وغزة والضفة، القابض بتجاعيد يديه ووجهه على مفتاح يأكله الصدأ لمنزله الفلسطيني المسروق، لم تعد مغرية لهذا "الضمير العالمي". ربما لم تكن كذلك يوماً.

صارت العودة أكثر غموضاً حتى في مخيلتنا، نحن أبناء الجيل الثالث للنكبة. هل أعود لو عاد المنزل؟ لا أعرف... على الأرجح كلا. كلام من شأنه توجيه اتهامات بالجملة بـ"إثارة الوهن في نفسية الأمة"، فليكن، لكن، من دون عنتريات، فلنتذكّر أن حكمة التاريخ والجغرافيا تفيد بأن نظرية الحتميات سقطت، لسوء حظّ صديقنا المذكور أعلاه. ولأنه لا وجود لحتميات، فإنّ تحقُّق العودة سيبقى وارداً، وإن كان العكس ممكناً جداً أيضاً.


(صحافي فلسطيني/ بيروت)

المساهمون