اسمها أمل جمال. ببلوغها 16 عامًا، تنخرط في "ثورة 25 يناير" (2011) المصرية. يحدث هذا عام 2013. تريد أن تكون في الشارع، لأن الشارع مرآة التبدّل، وحكاية التغيير، وحيّز الثورة السلمية المدنية. الشاب محمد صيام يحمل الكاميرا كي يُرافقها في محطاتٍ مختلفة في سيرتها المتلازمة وسيرة الثورة المُجهَضة باكرًا. 16 عامًا عمرٌ مليء بالتوتر والغضب والتمرّد والرغبة في تغيير العالم سريعًا. عمرٌ مشحون بكمّ هائل من الأحلام والمثاليات، من دون ابتعاد مفرط عن واقع ونبضه. لكن صيام سيبقى مع أمل حتى بلوغها 19 عامًا، كي يكتشفا معًا تحوّلات وارتباكات شتّى في روح الثورة وجسدها، كما في روح أمل نفسها وأحلامها و"أمنياتها".
يروي محمد صيام حكاية أمل جمال بين عامي 2013 و2016. يستعيد أشرطة "فيديو منزلي" عن حفلات عيد ميلاد أمل وأمّها، أو عن رحلة ونُزهات. يتابع انفعالاتها وتخبّطاتها ورغباتها ونضجها وارتباطها بأحلام وهواجس. يتابع تبدّلاتها أيضًا، فأمل تنتقل من حالة إلى أخرى، وبعض الحالات تتناقض في ما بينها، كأنها ـ بانتقالها هذا ـ تحاول اكتشاف مزيدٍ من خفايا ذاتها وروحها، أو كأنها تعكس بعض تقلّبات الثورة وانهياراتها. فهي، بانقلابها مع المنقلبين على نظام فاسد وقامع ووحشيّ، تذهب بعيدًا في المواجهة، وتمنع والدتها من أي كلام، فهي (أمل) "تتهمها" بأنها غير منخرطة في الثورة، والأم تقول عكس ذلك، في نقاشٍ يتناول الثورة وحراكها، والنظام وطغيان حضوره، والانتخابات الرئاسية الأولى "تفرض" على المصريين اختيار نموذجٍ يُمكن أن يكون تغييريًا لكنه لن يُلائم الجميع، أو استمرار "الفلول".
لكن والد أمل، المتوفّى قبل اندلاع الثورة بأعوام قليلة، شرطيٌّ سابق. يظهر سريعًا في لقطاتٍ من الوثائقي "أمل" (2017، إنتاج ميريام ساسين من "أبّوط للإنتاج" ومحمد صيام من ArtKhana، بدعم تمويلي من "مؤسّسة الدوحة للأفلام" و"الصندوق العربي للثقافة والفنون ـ آفاق" و"مؤسّسة الشاشة في بيروت" وغيرها) لمحمد صيام، الذي يفتتح الدورة الـ30 (15 ـ 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية"، والمُشارك حاليًا في مسابقة الأفلام الوثائقية في الدورة الـ29 (4 ـ 10 نوفمبر 2018) لـ"أيام قرطاج السينمائية" (تونس). الأب حاضرٌ بصوته في أفلام "الفيديو المنزلي"، لكنه صوتٌ هادئ وحنون رغم ضخامته. أمل تنقضّ على المؤسّسة الأمنية وتواجه أفرادًا منها في الشارع لحظة الثورة، لكنها لاحقًا ستُخبر صديقة لها عن رغبةٍ في الانتساب إلى جهاز الشرطة، فـ"أن تكوني داخل الشرطة غير أن تكوني خارجها"، كما تقول أمل، فتُفاجأ الصديقة وتسأل عما ستفعله أمل إنْ تجد نفسها كشرطية في مواجهة من يُشبهها الآن: "سأكون في المكتب أصلاً. الشرطيات لن ينزلن إلى الشارع".
تبدّلات متناقضة تعيشها أمل: الشابّة المتحرّرة والمتمرّدة على الأهل والنظام والبلد، والمنتفضة على رفاقٍ يطلبون منها العودة إلى منزلها قبل منتصف الليل لأنها فتاة، والصاخبة في تحدّي رجال الشرطة، والعاشقة رياضة الركض، والمصدومة بمقتل أول حبيبٍ لها أثناء أحد الصدامات اللاحقة للـ"18 يومًا" الأولى. الشابّة هذه "تخضع" لاحقًا لشابٍ تُحبّه، فترتدي الحجاب (خصوصًا بعد مرحلة الصدامات العنيفة ضد "الإخوان المسلمين")، وتقنع بعيشٍ تقليدي وهي في عامها الـ18. تبدّلات متناقضة لن تحول دون تمسّكها بشيء من عفوية وصدق وقناعة. فهي تزور أهل والدها، وتزور قبر والدها، وتُفكِّر بكيفية ترميم المقبرة، وتدرس، وتجلس في مقهى مع صديقة. تبدّلات متناقضة، كأنها هي نفسها تبدّلات ثورة ستُجْهَض، وسيتمّ الانقلاب عليها، وستُصَادَر، وستُمنع من إكمال خطّها العفوي المدني السلميّ.
تقول أمل "إنّ الناس خائفين"، وإنهم معرّضون للخيانة (إنْضَحَك عليهم). هذا قول يعكس مرارة وألمًا. يبوح بشيء من حسرةٍ تُفسِّر معنى التبدّلات التي تمرّ بها أمل جمال في 4 أعوام فقط، هي أيضًا أعوام حراك ثوريّ مُحبَط ومسروق. صخبها في مواجهة والدتها يتحوّل إلى قبولٍ بزواج تقليدي لتأسيسٍ عاديّ لعائلة عادية. فرح الطفولة مع الوالدين يُصبح نوعًا من قهرٍ ووجع ليس بسبب غياب أبٍ أو انكسار حلم، بل ربما لأن حجم الانقلاب على الانقلاب أكبر من أن يُستوعَب بالنسبة إلى أمل تحديدًا، رغم امتلاكها وعيًّا حيويًا في عمرٍ صغير، وبالنسبة إلى كثيرين. ارتداء الحجاب (18 عامًا) ثم خلعه (19 عامًا) انعكاسٌ لارتباكٍ إزاء تحوّلات تحصل في الاجتماع والشارع وبين الناس. مشاركتها في "ثورة" سلمية تواجِه أجهزة قمع وتسلّط (في السياسة والأمن والاقتصاد)، ثم إعلان رغبة في الانخراط في جهاز الشرطة لأسبابٍ غير مُعلنة بوضوح بل بمواربة (حماية، حصانة، سلطة، وظيفة تؤمن عيشًا أفضل؟)، انعكاسٌ للارتباك نفسه.
تقول أمل ذات لحظة إن حلمًا يُراودها دائمًا يتمثّل بعودة والدها إليها للاحتفال معها بعيد ميلادها. تحلم به حاملاً الكاميرا ومُصوِّرًا وقائع الحفلة المنزلية المتواضعة. تسمعه يسألها أمنية، فتتسمّر في مكانها عاجزة عن ذلك، لأنها غير عارفة ما الذي تتمنّاه. تريد، فقط، أن تحتفظ بالذكرى. تقول أمل هذا كلّه أمام كاميرا لن تنظر إليها ولن تتفوّه أمام عدستها بشيء، فالصوت صوتها وهو آتٍ من مكان آخر. والصورة صورتها وإنْ تبقى صامتةً أمام العدسة. تنتقل الكاميرا معها إلى الملعب، فالبداية منطلقة من الملعب نفسه. وفي النهاية، ستُظهِر أمل ابتسامةً تبقى غامضة، أو كأنها توحي بغموضٍ ما. وهو إيحاء بهيّ.
مع محمد صيام، ترسم أمل جمال لوحاتٍ جميلة وقاسية وملوّنة وغامقة عن أعوام قليلة من عمرها، وعن أحوال "ثورة" مُغيَّبة، وعن انفعالات عمرٍ متبدِّل.