إذا كانت فرضيات العمارة تقول إنه بالإمكان ابتكار بناية تتنفس في المستقبل، فإن بنايات بيروت الآن صار بإمكانها أن تسمع وتتكلم. يتيح لها ذلك حسابٌ في وسائل التواصل الاجتماعي قام بإنشائه المعماري رأفت مجذوب ضمن مشروعه الفني التفاعلي "ألو، شايفني؟"، الذي يضمّ أيضاً مبادرة تفاعلية، تبني علاقة متخيلة بين المبنى والناس.
ينطلق المشروع في الرابع من تموز/ يوليو، وتقوم فكرته على أن تجوب شاحنة خضار أحياء المدينة بهدف البيع، بينما تعرض الشاشة المثبتة عليها أسعار الخضروات. تتوقف الشاحنة عند 13 محطة مخططة في مسار العرض، وهي ليست إلا مبان مهجورة وشهيرة في بيروت مثل الـ "هوليدي إن" و"بيكاديلي" و"برج المر"، عند ذلك تبدأ كل بناية في سرد مونولوغها الذي يظهر على الشاشة.
بيروت مدينة مليئة بالمفاجآت المعمارية، غالبيتها ليست سارّة، مليئة بالأبنية المهجورة، ومليئة بالأبراج، ومليئة بالبيوت القديمة الجميلة، وبالبيوت التي تتشبه بالبيوت القديمة، وهناك مبان متروكة كأنها "سوفنير" من الحرب مثل سينما "دوم". هنا يدافع مجذوب عن الأبنية والعمارات المثقّبة، وفي حديث إلى "العربي الجديد" يبيّن: "هذه ليست مخلفات حرب، هي موجودة وتنتمي إلى الحاضر، ليست ذكريات عن العنف، وليست عقاراً أموره عالقة، وليست إرثاً لم يتم البت في أمره بعد، لذلك اقترحت النظر إليها كأشخاص موجودين بيننا، وهذا المشروع يسأل كيف نتصرف مع محيطنا".
إذن هو مشروع بنيّة أنسنة العمارة، محاولة من مجذوب (1986) لفض سوء الفهم بين المكان وسكانه، والذي يتجسد كما يرى في "خلو المنطق" وفي التذمر من المبنى القديم البالي والجديد البعيد المنال، وفي رفض المنطق المعماري الذي آلت إليه المدينة التي تحيرنا هويتها، الكل يتحدث عن تناقضاتها، ويتذمر من أبراجها المصمتة المحجوبة بمساحات زجاجية تواري من خلفها وتكشفنا أمامه. تلك الأبراج المنبوذة والمشتهاة في آن تقف إلى جانب بنايات قديمة كلاسيكية جميلة وادعة، بأبواب خشبية حمراء أو زرقاء وبلكونات غارقة في الورود، وهذه أيضاً بدورها ترتفع بجانب أخرى موحشة وآيلة للسقوط تنتظر المستثمر الجديد ليهدمها ويرفع مكانها برجاً آخر بشقق ذات أسعار خيالية.
على أية حال، أياً كانت وجهة نظر أهل بيروت في عماراتها المهجورة، صار بإمكاننا التعبير عما نفكر فيه للبناية نفسها فنسألها. وصار بإمكانها هي أن تتكلم، وترد على السائلين. تلك البنايات المنسية والتي تتطاول من حولها الأبراج أو يشيح العابرون نظرهم عنها، تبدو في مشروع "ألو، شايفني؟" (الذي حصل على دعم من مؤسسة "المورد الثقافي") كأنها إنسان قصير القامة يقفز لكي ينتبه إليه الآخرون.
المفاجأة في هذا المشروع ليست فقط في فكرته المبتكرة، بل في مصيره المتوقع، إنه جزء من البحث الفني والميداني والتجريبي للرواية التي يكتبها المعماري منذ ثلاثة أعوام، والذي تضمن أيضاً مشروعاً سابقاً عنوانه "مال عام"؛ تخيّل مجذوب فيه نافورة في شارع الحمراء، يرمي فيها الناس نقودهم المعدنية لكي تتحقق الأمنيات وتتحول أموالها إلى مال عام.
الرواية تقوم على فكرة "عالم عربي متخيل" كما يصفها مجذوب، ويريد منها أن يعمّق العلاقة بين المدن وأهلها. وأن يعيد للبناء حقّه من الجغرافيا ومن حياتنا.