"ألعاب العمر المتقدّم": أخيل وراء السلحفاة

13 مارس 2018
(لويس لانديرو)
+ الخط -

بعض الروايات تشبه المدن يمكنك الدخول إليها من أي بوابة تشاء، وثمة روايات أخرى تشبه الكون، وهو كون مفتوح بحيث تتسع الرواية لمختلف التأويلات، ومنها رواية "ألعاب العمر المتقدم" للكاتب الإسباني لويس لانديرو (1948)، الصادرة عام 2017 عن "دار جامعة حمد بن خليفة للنشر" بترجمة صالح علماني.

عبر قصة رجل تجاوز الأربعين يُدعى غريغوريو أورلياس، وهو موظف في مكتب رث لشحن الأنبذة والزيتون، تقدّم الرواية الإنسان عبر اللامعقول، وعجزَه أمام انفراط عقد الحاضر، حيث تعلن دقات الساعة بما يشبه التهديد عن تبدّد اللحظات الماضية ولا يتوصّل الكائن إلاّ إلى تركيب حلم قد رآه. حتى الكلمات تتحلّل وهي تجهد لتلتئم حول مغزى واضح، وهذه هي طريقة اللامعقول في ترتيب المعنى والأشياء.

فغريغوريو أولياس يجد نفسه منخرطاً فجأة على مدى سنوات في مكالمات هاتفية يدّعي فيها أنه فنان ملاحق وذو شأن عظيم وهو يطلق على نفسه اسم فاروني. ويبدأ في تقديم الأخبار لرجل بائس في الريف يدعى خيل، والذي يجد عزاءه في أخبار التقدم والفن والعالم الحديث. مع الوقت ينخرط غريغوريو أكثر في اللعبة؛ يصف أشياء غير موجودة، يتلاعب بالواقع، يبني أماكن، يخترع عناوين لكتب لم يكتبها ورحلات لم يقم بها كي يرضي توقَ خيل للمعرفة وشغفه بالفن، والأخير يطالب بالمزيد.

يتغذى كلاهما من الوهم، وَهمُ وجود فاروني الفنان والشاب والشاعر والكاتب والرحّالة، لكن الأمور تتخذ منحىً آخر حين يقرّر خيل الحضور للمدينة والاستقرار بجانب معبوده فاروني، ويدرك غريغوريو مأساة حياته حيث ستنكشف أوهامه فهو ليس فناناً ولا شاباً، والعالم الذي رسمه سينهار لذا يقرّر الهرب، ليقيم في فندق صغير متخيّلاً غضب رجل الأرياف حين تنكشف كذبته والأوهام التي رماه فيها. لكن الأمور تتعقد إلى أن يجد نفسه محاصراً بجريمة قتل، في النهاية يهرب غريغوريو هائماً على وجهه في السهوب التي طالما حنّ إليها، وهناك يلتقي مصادفة مع الرجل الذي هرب منه والذي قرّر هو الآخر العودة للريف ويلتف الزمن مثل أفعى تعض ذنبها، و يتفتت الواقع بضربات اللامعقول.

وليس عَرَضاً أن يرد في الرواية ذكر مفارقة زينون، أو أخيل وراء السلحفاة، فقد أصيب اليونان بالدهشة حين أخبرهم زينون بأنه ورغم سرعة أخيل فإنه لن يستطيع أن يلحق بالسلحفاة في مسابقة العدو مع أن المنطق يفترض العكس! يجيب زينون، فلكي يلحق البطل اليوناني بالسلحفاة التي انطلقت قبله، يجب أن تمضى ثانية ثم نصف ثانية ثم ربع ثانية ثم ثمن ثانية وهكذا الى ما لا نهاية.

وهنا سأل زينون ما هي نتيجة جمع عدد لانهائي من القيم الصغيرة؟ وكانت الإجابة عند الإغريق أنّه ولا شّك عدد كبير جداً فكما أن المحيط الهائل يتكوّن من تراكم قطرات ماء تافهة وكما أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة. فإن أخيل سوف يحتاج إلى ما لا نهاية من الزمن حتى يلحق بالسلحفاة ناهيك على أن يتخطاها. إذن أين يكمن الخطأ؟

أيكمن في فلسفتهم التي كانوا يعتقدون أنها غاية في الحكمة والمنطقية. ربما لذلك كان الشيطان أحد أهم أبطال الرواية. وهو ذاته بطل حكاية الخلق فمنذ البدء يسير جبناً إلى جنب مع آدم الذي يحاول عقلنة واقعه لكنه يفشل في العثور على جواب لمحنته، وهنا يتقدّم الشيطان عبر لامعقولية الحياة ووسط هذا المسرح من الأماني الضائعة والخيبات ليجيب "هذا العالم هو أرض اللعب واللامعنى". لكن آدم يستمر في المحاولة وهنا يمكن لنا السؤال ما الذي ينقذ الإنسان؟ العلم، الحب أم الدين؟

في مقطع المقايضة بين فليكس عم غريغوريو والشيطان، رفض الشيطان كل العروض المقدمة له بما فيها القمر، وحين أخرج العم كومة من الروايات أبدى الشيطان ملامح الجد ووضع يده فوقها كما لو أنه سيحلف يميناً وقال: لقد قبلت الصفقة. مبادلة عادلة: معجم كل الكلمات / أطلس كل الأمكنة / موسوعة المعارف.

لكن فليكس سينسى مساء ما حفظه نهاراً، وصار غريغوريو يقرأ له من المعجم كل ليلة الكلمات التي فقدها في النهار، ويعجز عن الإمساك بالعالم ومهما حاولنا فلا يمكن لوضوح الرمز أن يقودنا للسيطرة على ما يرمز إليه (أي العالم)، وهذه محنة فليكس فالنسيان هنا يبيّن أنه لا عزاء في واقع يفلت منا ويصعب التنبؤ به؛ يقول "الآن تعلمت شيئاً حقاً، تعلمت أنك لن تعرف أبداً اسم تلك الموسيقى، ستتذكرها ولكن لن تعرف اسمها لهذا ستكون رجلاً تعيساً".

وبهذا تنتهي الرواية إلى الإقرار أن الإنسان مجرّد "طموح يائس"، بهذا يلتقي لانديرو مع أستاذ العدمية ميلان كونديرا الذي يصف المصير الإنساني أنه "مزيج من التفاهة والدراماتيكية" ومع مقولة أندريه مالرو الذي يصف الإنسان بأنه "كومة بائسة من الأسرار".

فتصبح معرفة الإنسان لذاته مهمة شاقة بل هي أصعب مجازفة وتتمثل في جواب الشيطان على السؤال ما الذي يناسب الإنسان أكثر: أهي السعادة أم القدر؟ يقول: ربما إذا كان قوياً المجازفة بأن يكون نفسه، وإذا كان ضعيفاً يستلقي للراحة في التخيّل، وبهذا يقرّر: "أنا لا أستطيع تعليم الإنسان البحث عن قدره، قلت لنفسي ولكن أستطيع مساعدته على الإذعان لسراب السعادة".

إنها رواية عن الشجن، وعن الخيبة، وعن ماهية الحب الذي يحيل سقوط ورقة صفراء إلى نبوءة وتفتّح زهرة إلى إلهام. في النهاية يقول لانديرو على لسان الشيطان: "لقد حدث لي مع الإيمان ما حدث لي مع الجوارب أتلف عقبيها حين أمشي، ولم أجد السعادة لا في الحب ولا في العلم ولا أي من ينابيع المياه العذبة تلك".

دلالات
المساهمون