صار من العادة أن تنقسم الأفلام المنتجة سنوياً في المغرب إلى مجموعتين، الأولى تشكّل أكثرية رديئة، والثانية تمثل قلّة جيدة، وضمن الفئة الثانية يمكن أن نصنّف فيلم "أفراح صغيرة" ثاني فيلم روائي طويل للمخرج محمد الشريف الطريبق (1971).
يعود الطريبق إلى مدينة تطوان، نفس المكان الذي احتضن عمله الأول "زمن الرفاق" (2008)، ليصوّر فيها عملاً آخر عن هذه المدينة وتاريخها. وهو من بين أفلام مغربية كثيرة عادت إلى التاريخ الوطني، لكنها لم تكن موفّقة دائماً في التعبير عنه، بخلاف فيلم الطريبق؛ الذي اختار إلى جانب تاريخ تطوان أن تكون المرأة المغربية هي نواة عمله.
قدم الفيلم قصّة أرملة تدعى زينب (أداء سمية أمغار)، تضطرّها ظروف الحياة إلى اللجوء إلى بيت سيدة ميسورة ماما عينو (أداء فامة الفراح)، وتجلب معها ابنتها نفيسة (أداء أنيسة العناية)، وعند إقامتهما في بيت ماما عينو تنشأ علاقة إعجاب تتحوّل مع الوقت إلى حب بين نفيسة وفطومة حفيدة صاحبة البيت. يتطوّر التعلّق، ويشوبه كل ما يشوب الحب من عتاب وهجران وآلام البعد والقرب.
لا أحد في البيت كان يلتفت إلى ما كان يحصل بين نفيسة وفطومة، فالكلّ كان مشغولاً بالإعداد لحفل زفاف أم كلثوم (أداء مها داوود) الحفيدة الثانية لماما عينو. بعد الزفاف بقليل تعود الفتاة إلى بيتها حزينة ليتّضح أن الزوج صُدم لدى رؤيتها لأنه كان يعتقد أنه تزوّج أختها، فالتقاليد كانت تحرّم على الخطيب رؤية خطيبته قبل الزواج. تتوالى الأحداث وتُخطب نفيسة لشاب تحبّه وتكتم الخبر عن فطومة، ما يؤدّي إلى إنهاء العلاقة.
"أفراح صغيرة" يستحق وصفه بالعمل المتقن، والأكيد أن المخرج بذل جُهداً كبير في هذا الجانب، بدأ بعمله مع ممثلاتٍ يُعتبر هذا العمل الأول والأهم بالنسبة لهن، رغم ذلك يظهرن واثقات أمام الكاميرا منسجمات مع أدوراهن؛ في دور البطولة مثلاً، يختار الممثلة الشابة أنيسة العناية، يُراهن عليها في دور يحتاج على الأقل إلى خبرة سنوات من الوقوف أمام الكاميرا، وهكذا فعل مع ممثلاته الأخريات، ويراهن كذلك على فراح وهي سيدة كانت تعمل بعيداً عن السينما، واستطاعت أن تقدّم دور السيدة التطوانية الحاضنة لعائلتها المتحكمة في تفاصيل تسييرها والحفاظ على ترابطها.
تظهر مدينة تطوان من خلال بيت مغربي تقليدي كبير، تسكنه عائلة جُلّها من النساء، هذا الفضاء المُغلق لم يمنعهن من معرفة ما يحدث خارج أسواره، يظهر ذلك في ثنايا أحاديث النُسوة، كما يمكننا اعتباره امتداداً لباقي بيوت المدينة في تلك الفترة. وأغلب مشاهد الفيلم كانت تجري داخل نفس المكان، حيث انتقل الطريبق إلى الخارج في مشهدين، تذهب العائلة في أحدهما إلى السينما لحضور فيلم لفريد الأطرش.
من بين الميزات الأخرى في الفيلم قدرته على التعبير عن فترة الخمسينيات التي يُعالجها، وكأن المخرج كان متوجساً من فشل الكثير من الأفلام المغربية التي لعبت على وتر التاريخ؛ والتي ضلّت طريقها للتعبير عن المكان والزمان بصورة دقيقة ومنطقية. اشتغل "أفراح صغيرة" على هذه الفترة بحرص ودقة وجدية بالغة، وعبّر عن حضور المرأة فيها حيث كان فضاء البيت هو المكان الوحيد المُتاح أمامها وفيه كانت تجري لقاءات النساء وتحفظ أسرارهن.
عندما اختار المخرج أن يقدّم قصة في مكان محدود ربح مهمة التعبير الدقيق عن التفاصيل وجنّب نفسه مواجهة التصوير خارجاً؛ المسألة كانت بكل تأكيد ستحتاج مجهوداً فنياً أكبر من فريق العمل وميزانية أضخم وكانت ستحتاج نقداً لكل حدث تاريخي يقدمه. ولكن هذا الاختيار لحيّز التصوير لم يكن قائماً منذ البداية، واستقرّ عليه المخرج بعد مراجعة العمل والنظر فيه طويلاً.
استدعاء الماضي والحنين إليه ظهر كثيراً في مشاهد الفيلم والكثير ممن أعجبوا بالفيلم كان مدخلهم إليه هو تعبيره عن فترة يحنّ إليها المغاربة، حيث كانت الحياة أبسط والترابط أقوى، وقد احتفى الفيلم بهذه الفترة فنياً أيضاً عندما تناول عادة الذهاب إلى السينما التي كانت تشكّل حدثاً بالنسبة للعائلة والمدينة وكانت تستدعي التأنق والاستعداد.
وقع اختيار الطريبق في كل مشاهد الفيلم على الكاميرا الثابتة لأنها مضمونة النتائج ومعروفة كذلك بحسن تعبيرها عن الفضاء والتقاطها للتفاصيل الصغيرة وحثّها على التأمّل، وهو أمر كان يحتاجه المخرج في ظلّ سعيه للتعبير الدقيق عن المرأة المغربية التي كان لباسها وزينتها ومكان جلوسها من ضمن مميزات حضورها.
لكن بالنظر إلى عمق المعالجة سنلاحظ حذراً كبيراً لدى صاحب "تسقط الخيل تباعاً"، حيث لم يصل بنا الفيلم إلى مرحلة المعالجة العميقة لكل المضامين التي أثارها، واحتمت القصّة كثيراً خلف تقديمها لجزء من حياة المجتمع المغربي في منتصف القرن الماضي، من دون تجاوز ذلك، أما مسألة العلاقة التي جمعت نفيسة وفطومة فقد بالغ الفيلم في التعبير عنها إيحاء. ربما للمخرج منطقه في ذلك في ظل رد الفعل المتوقع للكثير من جمهور السينما في المغرب الذي لا يزال عاجزاً عن فهم حدود الحرية في العمل الفني.
احتراز المخرج أدّى به إلى اختيار حل فني جميل تمثل في وصلات غنائية أندلسية للفنانة زينب أفيلال كان مضمونها كتكملة لما عجزت عن قوله الصورة والحوار معاً.