"أضواء على عائلة نور": ما خفي من سياسات الإدماج

16 يونيو 2020
من حيّ للمهاجرين في ضواحي باريس (فريدريك سلطان/ Getty)
+ الخط -

في كتابها "ظلال وأضواء على عائلة نور: مقاومة التهميش في مجتمع المهاجرين"، اعتمدت أستاذة علم الاجتماع في جامعة ستراسبورغ الفرنسية؛ كاترين ديلكروا، على منهج السوسيولوجيا السردية، في مقاربة موضوع الهجرة والتهميش داخل فرنسا. وهو العمل الذي صدرت نسخته العربية بترجمة رياض الكحال عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (2018) ضمن سلسلة "ترجمان".

هكذا نكون أقرب إلى رواية اجتماعية، تقارب من خلالها ديلكروا حياة عائلة من أصول مغربية تقطن إحدى المدن العمّالية بفرنسا. امتدت هذه الدراسة لعشر سنوات، اختارت فيها الباحثة عائلة نور، لأنها أُسرة كبيرة تتكوّن من عشرة أفراد، مما يجعلها عيّنة نموذجية تكشف معظم الصعوبات التي تتخبّط فيها الأُسَر التي في وضعية هشاشة. إنها مقياس تتشابك معه مجموعة من الأبعاد التحليلية: مجتمع الهجرة، الفرد والجماعة، المجتمع والطائفة، الوصم الاجتماعي، الإقصاء والهشاشة الاجتماعية. كما أن الكتاب يميط اللثام عن الاعتلالات التي تتخلّل مجموعة من الإجراءات والقوانين التي تسنّها فرنسا تحت مسمّى الإدماج.

تُفكّك ديلكروا، عبر سرد حكاية عائلة نور، مجموعة من الأحكام المسبقة التي ترتبط عادة بالمهاجرين من أصول مغربية، فغالباً ما يُنظَر إليهم كأشخاص كسالى انفعاليين وعدوانيين، وأنهم مجرّد منتفعين. لتبيّن، خلافاً لذلك، أن الأشخاص (المهاجرين المغاربة) في وضعية هشاشة، يستخدمون استراتيجيات دينامية لحل مشكلاتهم، إنهم لا يختارون البطالة، بل تُفرَض عليهم، وعبرها يُفرَض عليهم التهميش والإقصاء.

عائلة نور التي تروي ديلكورا قصّتها، تقطن في إحدى المدن العمّالية في فرنسا منذ حوالي ثلاثين عاماً. تعيش هذه الأسرة المكوّنة من أب وأُمّ وثمانية أبناء، توازنات حياتية غير مستقرّة، إنها تنتمي إلى وسط عمّالي، فالأب الذي عمل لمدّة أحد عشر عاماً، وبعد تعرّضه لحادث شغل أصبح يتقاضى تعويضاً ضئيلاً عن الإعاقة، ممّا سيجعل الأسرة تعتمد أكثر على الإعانات. هذه الإمكانات المادية المحدودة تكشف بوضوح وضعية الهشاشة التي تعانيها هذه الأسرة، والتي تؤثّر في سلوك الأهل والأطفال الثمانية (ابنتان وستة أبناء) وفي مسارهم الدراسي والمهني، وعملية اندماجهم أيضاً.

تتفادى ديلكروا في دراستها لحالة عائلة نور الرؤية الثقافوية، فهي لا تفسّر وضعية الهشاشة التي يعيشونها انطلاقاً من المنشأ الأمازيغي والإسلامي للعائلة، بل تحاول النفاذ إلى التفصيلات الحياتية لكل فرد من أفراد هذه الأسرة. إن العائلات المهاجرة، كما تُبيّن الدراسة، تُعيد صياغة مشروع الهجرة من خلال الأطفال، حيث تقول: "إنها تركز على مستقبلهم أكثر مما تركّز على جذورهم".

وتشكّل المدرسة المكان الذي تحاول هذه العائلات الاستثمار فيه، لتُمكّن أطفالها من الاندماج الاجتماعي والاقتصادي. ويكون للفشل في هذا الاستثمار عواقب وخيمة، حيث سيبيّن لنا مسارُ عائلة نور كيف أن معظم الأبناء، باستثناء الأخت الكبرى، قد عرفووا تعثّراً دراسياً أثّر بشكل كبير على اندماجهم في سوق العمل والمجتمع، بل وأدّى بأحد الأبناء إلى الانحراف والجنوح.

ارتبط هذا التعثُّر الدراسي الذي عانى منه أطفال عائلة نور بأمراض عضوية، ولكن أيضاً بباثولوجيات نفسية واجتماعية، منها الاكتئاب النفسي، ومرض عسر القراءة، ومرض الكلى الوراثي، علاوة على أسباب مرتبطة بالعنصرية والإقصاء اللذين تعرّض لهما هؤلاء الأطفال في المدرسة بسبب أصولهم الأجنبية.

كما أن الحصول على عمل، وبالتالي الاندماج الفاعل في المجتمع، ليس بالأمر السهل، بالنسبة إلى شباب الأحياء العمّالية، فنسبة كبيرة منهم لا تُتم دراستها، أو في أحسن الأحوال تتّخذ مساراً مهنياً. ولكن أمام الوضع الاقتصادي الذي يتّسم بكثرة طلبات العمل مقابل ندرة الوظائف، وأمام ما تلعبه العلاقات الشخصية من أدوار مهمّة في عملية التوظيف في فرنسا، يجد الشباب، وخاصة شباب المدن العمّالية، أنفسهم أمام وضعية البطالة، فغالباً ما يرفض أرباب العمل تشغيل الشباب من أصول مغربية. وتنحصر الوظائف التي قد تُفتَح أمامهم في قطاعات التنظيف الصناعي وتنظيف المكاتب. إننا أمام نوع من القَدَرية الاجتماعية تحصر هؤلاء الشباب في الأفق المهني نفسه لآبائهم.

تعاني عائلة نور، مثل باقي العائلات في المدن العمّالية، من أشكال متعدّدة من التمييز والوصم، فهي عائلات في وضع هش من جهة، وذات أصول أجنبية من جهة ثانية. هذا الوصم المزدوج يؤثّر بشكل أكثر حدّة في أبناء هؤلاء الأسر الذين وُلدوا في في فرنسا وترعرعوا فيها، فهم يتمثّلون أنفسهم كفرنسيّين، لكن المجتمع الفرنسي لا يتمثّلهم بالضرورة كذلك. وتشير ديلكروا في هذا السياق إلى الفروقات القائمة بين الآباء والأبناء في تقييم تجربتهم، حيث يشعر الآباء الذين وصلوا إلى فرنسا كمهاجرين مغربيّين أنهم متميّزون مقارنة بأفراد عائلتهم في المغرب، هذه المقارنة تحقّق لهم شعوراً معتداً بالذات، مقارنة بأبنائهم الذين يقارنون أنفسهم بأبناء جيلهم من الفرنسيّين، فيجدون أنفسهم أمام فروقات عديدة تُولّد لديهم شعوراً بالتمييز، باعتبارهم أبناء مهاجرين معرّضين أكثر من غيرهم للهشاشة والتهميش.

ترى ديلكروا أن "الهشاشة ليست مسألة اقتصادية فحسب، إنها أيضاً مسألة حقوق". ويخطئ المجتمع الفرنسي في نظرها حين ينظر إلى العمال المهاجرين، سكان الضواحي، بريبة وحذر وعدوانية، فهذه أفضل طريقة لجعلهم أعداء حقيقيّين. هذا الإقصاء وهذه الخطابات العنصرية تدفع ببعضهم ليصبح أكثر جنوحاً وعنفاً. ولا يخفى أن العنف يصبح عند شريحة كبيرة من شباب الأحياء شكلاً من أشكال المقاومة لخطابات العنصرية، وسياسات الإقصاء، وقد نفهمه أيضاً كدفاع عن حقّهم في المرئية الاجتماعية أمام مجتمع يُمعن في تجاهلهم. لقد كشفت مجموعةٌ من الشباب لديلكروا بأن الشباب العنيف وحده من يُرغم السلطات على أخذه بالحسبان، بل، وأكثر من ذلك، تعمل المؤسّسات الاجتماعية على دمجهم في سوق الشغل كآلية لضبطهم.

تُبيّن كاترين ديلكروا كيف أن العائلات في المدن العمّالية، ومن بينها عائلة نور، تربطهم علاقات بمجموعة من المؤسّسات ذات الطابع الاجتماعي كمؤسّسات حماية الأمومة والطفولة، وصندوق الإعانات العائلية، والمركز الطبّي والتربوي، وتلعب هذه المؤسّسات دوراً مهمّاً في حياتهم اليومية. فهي مؤسّسات فاعلة في إدماجهم الاجتماعي، وتربية أطفالهم. لكنها ستكشف عن الشرخ الذي يطبع هذه العلاقة أحياناً، خاصة حين تسقط هذه المؤسّسات في تحديد معايير فوقية ونماذج راسخة لا تأخذ بعين الاعتبار الخلفيات الثقافية لهذه الأُسر، وتعمل على فرض الاندماج الكامل.

المساهمون