حين يجري اختيار اسم معرضٍ يجمع أعمالاً لتشكيليَّيْن اثنين، يُنتقى اسمٌ يحاول قدر الإمكان مقاربة اشتغالات الفنّانَين، ويعبّر عن رؤيةٍ مشتركة تضع لوحاتهما تحت سقف صالةٍ واحدة. "أصوات"، هو اسم المعرض الذي تقيمه "غاليري المرخية"، حالياً، في "مركز كتارا للفنون" في الدوحة، للتشكيليين السوريين، ريم يسوف وعمران يونس.
لكن لماذا "أصوات" وليس "صوتان"، مثلاً؟ حين ننظر إلى أعمال الفنّانين، نجد أنفسنا أمام صوتَين مُختلفين تماماً في التّعبير عن الراهن السوري. كما نجد أن لوحات كلّ منهما تحاول، بطريقتها، التّعبير عن "أصوات" السوريين وما يعيشونه (أو لا يعيشونه) في بلادٍ أصبح الموتُ ظلّها.
بينما تذهب يسوف في لوحاتها إلى استخدام رموز هادئة، تنتمي إلى عوالم الطفولة، مثل الطائرات الورقية والبطاقات البريدية وطائر السنونو الذي يُطلّ مع الربيع، والأطفال أنفسهم أيضاً حاضرون في أعمالها؛ يرسم يونس معالم أخرى للمشهد السوريّ، حيث نرى ما بعد الحياة، نرى الموتى والمقابر، بلوحاتٍ أُنجز معظمها بألوانٍ داكنة، كالأسود والأحمر القاني والبرتقالي الغامق.
قد تكون هذه القسوة التي تتّسم بها أعمال يونس نابعةً من بقائه، حتّى اليوم، في دمشق؛ حيثُ هو شاهدٌ على الحضور الفظ للموت اليومي في بلاده. يُلاحَظ في لوحاته نوعان من الموتى؛ واحدٌ صامتٌ وهادئ، ومُحاصرٌ بكائنات مُخيفة، تُشبه الكلاب الضالّة، أو الغربان، كأنّها موتٌ آخر يُحاصر الموتى في نومهم الأبدي. أمّا في الثاني، فنرى الموتى غير مُحايدين، في وجوههم (وهي هياكل عظمية) تعابير حادّة، كما لو أنّهم يصرخون: كفّوا عن قتلنا ثانيةً.
بالنسبة إلى يسوف، التي خرجت من سورية قبل قرابة ثلاثة أعوام إلى عمّان، ثمّ باريس، فهي تتخفّف من صور الموت المباشرة، ربّما تواريها، بطريقةٍ ما، على شكل أطفالٍ يطيرون محلّقين في فضاء مفتوح؛ حيث يظهرون فيه كأنّهم يغادرون الأرض. لكن تظلّ لوحاتها حالمةً، تستدعي الأمل.
يُمكن أن نلاحظ ذلك في واحدة من اللوحات التي لم نرَ فيها طفلاً واحداً، وإنّما سنونوات تبعث إلى الأرض برسائل تحملها من علٍ؛ من أطفالٍ ليسوا في هذه اللوحة، بل هم في أُخرى يبتعدون صاعدين إلى السّماء.
في لوحةٍ أخرى لها، ننظر إلى أربع ورداتٍ، لكن حين نحدّق جيداً، ننتبه إلى أنّها ثلاث، والرابعة ليست سوى طفلةٍ تُطلّ من بينها. أوَليست هي الأخرى زهرةً في انتظار ربيعٍ ما كي تبزغَ منه من دون خوف كما تلك الوردات الكاملة؟ وإن بدا لونها يميل إلى الرمادي قليلاً، لكنها متفتّحةٌ، وتزيّن ساقها الأوراق.
هكذا، يضعنا "أصوات"، الذي يستمر حتى 26 من الشهر الجاري، أمام مشهدٍ واحدٍ، ينظر إليه فنّانان كلّ من زاويته؛ الأولى تصوّر الموتى وهم في الأرضِ، والثانية تصوّرهم أطفالاً صاعدين إلى السّماء، وكلاهما يُرسل الرسائل ذاتها: متى سينتهي هذا كلّه؟ سؤالٌ يُظلّل المشهد السوري كاملاً، ويحاول الفنّ أن يستشرف الإجابة من خلال ما يستطيع إليه سبيلاً.