في العام 2007، صادق المغرب على قانون الأرشيف الذي بُعثت من خلاله مؤسسة "أرشيف المغرب" (2011) كهيكل عمومي يتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، وكان الهدف منها توثيق التطوّر التاريخي والتعدّد الثقافي في البلاد.
ومن بين ما تناط به المؤسسة، صيانة التراث الوطني وجمع وحفظ ومعالجة أرشيف المرافق التابعة للدولة والمؤسسات العمومية، وتيسير الاطلاع على هذه الوثائق وتثمين قيمتها العلمية والثقافية والتربوية بواسطة الوسائل الملائمة.
"العربي الجديد" استطلعت آراء بعض المثقفين في المغرب بخصوص جدوى "الأرشيف" في دمقرطة الحق في الوصول إلى المعلومة، وفي علاقة المصالحة التي قد تعقدها مثل هذه الخطوة مع الماضي العنيف الذي مرت به البلاد، ومع قضايا التعددية الثقافية وإشكالاتها التاريخية.
يرى الكاتب أحمد الفطناسي، أن "ثمة غموضاً يحيط بالدور الحقيقي لهذه المؤسسة داخل النسيج الثقافي المغربي"، غير أنه يؤكّد على حاجة الثقافة المغربية إليها، حين يتعلق الأمر بصيانة جزء من تاريخها وحفظه من الاندثار، إلى جانب دورها المركزي في الأرشفة والتوثيق لمسارات تشكُّل الثقافة المغربية بجميع روافدها، والأهم الاقتراب أكثر من السنوات "الحارقة" التي كانت فيها الثقافة في مقدمة "النضال الديمقراطي". هنا، يرى أن مؤسسة الأرشيف تسعف الفن المغربي بذاكرة تساعد في إظهار وإبراز الكثير من الفسيفساء المتعددة للثقافة المغربية وغنى روافدها وتراكمها التاريخي.
ينبغي التأكيد أن "مؤسسة أرشيف المغرب" جاءت استجابة لنضالات الأوساط الحقوقية والسياسية والثقافية في البلاد، وهي إحدى أهم ركائز مشروع العدالة الانتقالية ومؤسسته الأساسية "هيئة الإنصاف والمصالحة"، خلال عملها الذي امتد 23 شهراً في التحقيق حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في فترة تمتد من 1956 إلى 1999، حيث إن أكبر تحدٍّ واجهها كان المتعلق بانعدام الأرشيف، لذلك طالبت بضرورة إحداث مؤسسة تجمع وتوثق الأرشيف الوطني.
بدوره، يشير الأكاديمي محمد زهير "ليست هناك أمّة من دون ذاكرة. والذاكرة لا بد أن تتجسّد في مؤسسة أو مرصد شامل لكل الإنتاجات الحيوية لمختلف مكوّنات الأمة التي تشكل في مجموعها وحدة عضوية، ومصدر اغتنائها الثقافي هو تكامل منتوجاتها وإبداعاتها الرمزية والمادية، تلك التي تؤسس لتنوعها المتكامل وتعدّدها الموحد".
وإذا كان التنوّع والتعدّد في الإنتاج الثقافي للأمة من أهم العلامات الدالة على حيويتها وعلى قيمة وجودها، فإن ما يضمن تحفيز واستمرار هذه الإنتاجية أن تجد المكان النزيه الصائن لها، وفقاً لزهير، الذي يرى أن ذلك يدعم بناء المجتمع في أفق تفاعل وتكامل للخبرات والتجارب وفي سبيل مشروع موحّد وذاكرة عامة، قابلة للنماء مع كل حركة تقدّم. كل ذلك يعطي "أهمية خاصة إلى مؤسسة أرشيف المغرب، باعتبارها مرصداً وصائناً ومرجعاً لثقافة الأمة وذاكرتها ومنتوجها الدّال على تميّزها وحيويتها في مختلف الأوساط والسياقات".
تحظى المؤسسة باستقلالها المالي والإداري، وبتأسيسها انتهت مرحلة الاحتفاظ والتحفّظ على أرشيف المغرب، وأضحى تراثاً وطنياً مفتوحاً للجميع. كما بدأت المؤسسة عمليات معالجة الوثائق الأرشيفية التي تخص المغرب، سواء منه الموجود في الداخل أو في الخارج وتيسير الاطلاع عليها.
إضافة إلى البعد الثقافي، لا يخفى الأفق السياسي لهذه الخطوة، بحكم أن إنشاء المؤسسة جاء ضمن مخطط لـ "الإصلاح السياسي" انخرط فيه المغرب نهاية التسعينيات من القرن الماضي، من أجل "توسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها وتعزيز منظومة حقوق الإنسان ودسترة توصيات "هيئة الإنصاف والمصالحة" والالتزامات الدولية للمغرب".
من زاوية النظر هذه، يرى الشاعر محمد بلمو في مؤسسة أرشيف المغرب "أحد المقوّمات الأساسية لكل دولة ديمقراطية، تحترم نفسها وتاريخها وذاكرتها". ويضيف أن "هذه الخطوة مهمة لتطوير البلاد والحفاظ على الذاكرة المغربية وعلى تاريخها وثقافتها بكل التنوع والثراء".
بالنسبة لبلمو، فالأمر لا يتعلق فقط بالحفاظ على وثائقنا في حد ذاتها، رغم أهمية ذلك وأولويته، ولكن أيضاً "من أجل تجاوز المراحل التي كان فيها التاريخ يكتب بمضمون أحادي يلغي التعدد والاختلاف والتناقض من خلال إتلاف وإحراق وتدمير الوثائق والمستندات غير المرغوب فيها من طرف المؤرخين الرسميين".
بهذا المعنى، يتابع بلمو، "شكّل إحداث المؤسسة حدثاً من أجل تجميع وتنظيم وأرشفة مختلف الوثائق، ما سيوفر للمثقفين والباحثين والمؤرخين والخبراء الشروط العلمية الكفيلة بكتابة تاريخ موضوعي لا مجال فيه لتقاليد الكتابة التاريخية الكلاسيكية التي تنقل جزءاً منه وتقدّمه كما لو كان هو التاريخ عينه، وليس مجرد جزء مشكوك فيه من ذلك التاريخ".
من جهته، ينوّه الناقد محمد أبو العلا، "أن إنشاء مؤسسة أرشيف المغرب تكتسي أهمية قصوى في المغرب الحديث، وحضورها التوثيقي والوقائي لذاكرة جماعية منذورة للنسيان أو للتناسي في زمن التنكر، وإن كان هذا الحضور المؤسسي يبدو متأخراً بالنسبة إلى دول أخرى".
ويتابع "وأيضاً بالنسبة إلى حجم الانتظارات منها أمام حجم المنجز الباذخ لمخيلة المغاربة وإبداعاتهم، ويعنينا هنا كمسرحيين السؤال حول استراتيجية المؤسسة في حفظ العروض المسرحية بشكل خاص، أي: ما هي آليات التوثيق في هذا الإطار لتيسير الرجوع إلى الوثيقة بالنسبة إلى الباحث، ما دام العرض أكثر عرضة للمحو من النص؟
وبالعودة إلى القانون المنظم لإنشاء مؤسسة أرشيف المغرب، نقرأ خضوع المؤسسة لمراقبة الدولة المالية الجارية على المؤسسات العمومية والهيئات الأخرى بموجب النصوص التشريعية الجاري بها العمل، ووفق هذا المنظور التشريعي يبرز التوجس من قدرة مؤسسة أرشيف المغرب على تفعيل جزء كبير من توصيات "هيئة الإنصاف والمصالحة" بشفافية واسعة.
إن صيانة تراث الأرشيف الوطني والقيام بتكوين أرشيف عام وحفظه وتنظيمه وتيسير الاطلاع عليه قد يحتاج إلى إرادة سياسية مكملة تنبع من ثقافة ترسيخ الأرشيف ضمن المقررات التربوية، وضمن السلوك العام وضمن سياق تحرير الأرشيف من "غيتوهات" المنع.
مع أهمية المشروع، إلا أنه يظل أولاً وأخيراً مؤسسة رسمية خاضعة لرقابة الدولة، فما هو الضامن كي يكون الأرشيف محايداً وموضوعياً، وما الذي يكفل حرّيته ومصداقيته؟ لقد انتظر المغرب مرحلة طويلة لإقرار هذا المشروع الجريء في أفق بناء الدولة الحديثة، في انتظار المراسيم التطبيقية.
اقرأ أيضاً: انتخابات المغرب.. مثقفون بلا انتظارات