"أراب آيدول" والعولمة

11 مارس 2017
+ الخط -
لنتفق على أنّ المحطات الفضائية العربية التي أُنشئت مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي، لم ترَ النور، إلا بعد دخولها ضمن المنظومة العولمية الأميركية، وهذا حصل بعد التحالف، أو لنقل توظيف المصالح بين رأس المال الأميركي ونظيره العربي، وأقصد بالمصالح ليست الشعارات التي دائماً يتغنّى بها بعضهم، ولكن مصالح "الربح"، على الرغم من انحطاط الوسيلة المتبعة، وضربّ مبدأ "المسؤولية الاجتماعية" لرأس المال عرض الحائط.
يؤكد الباحثان، ديفيد مورلي وكيفين ربنس، في كتاب "فضاءات الهوية": كتبت أميركا كتاب قواعد التلفزيون الدولي، حيث إنّ الفورمات التلفزيونية التي وضعت وطوّرت في الولايات المتحدة حَدَّدت حرفيًّا الأطر التي تُنتج ضمنه البرامج في أكثر الدول الأخرى.
لنأخذ برنامج أراب أيدل الذي تعرضه قناة إم بي سي، ونضعه تحت سلطة التمحيص، وعلى الرغم من أنّ البرنامج بريطاني الأصل، إلا إنّ مَنْ منحه الشهرة والطابع العولمي، الولايات المتحدة الأميركية، فبحكم التحالف السياسي والعولمي والإعلامي بين الطرفين، لم تتردّد القنوات العربية، مِن الإقبال على استنساخ الفورمات التلفزيونية الأميركية، ومن ضمنها برنامج أراب أيدل.
بعيداً عن المفاصل السلبية لاستنساخ برامج كهذه، من شأنها أن تروّج نمط الحياة الأميركية بكلِّ تجلياتها العولمية والاستهلاكية، والتتفيه الممنهج للفن والثقافة، وبعيداً عن ملايين الدولارات التي ستجنيها الشركات المحتكرة للفورمات، ثمة مَصائب كثيرة تحدث خلف الكواليس.
ابتداءً من المراحل الأولية لجلب المتسابقين، يبدو أنّ القائمين على البرنامج يُركزون بشكلٍّ متعمّد على البيئة التي جاء منها المتسابق، بيئةٌ كادحة، فملابسه تكون، في بعض الأحيان، رثّة، وهيئته الخارجية غير متناسقة، وأسنانه "صفراء!"، ولكن في أثناء المراحل المتقدمة من البرنامج، لم نعد نشاهد ما شاهدناه من قبل، فالمتسابقون يظهرون بهيئةٍ مختلفة، تدلُ على البذخ الفاحش، والمظهر "الأنيق"، وهي رسالةٌ مبطنة للمتسابقين، مفادها: نحن مَنْ جعلنا منكم نجوماً لامعين.
البذخ الفاحش ينمّي سلوكيات سلبية ومنحرفة كثيرة لدى الشباب العربي الذي يعاني من الفقر والبطالة والتهميش، فما موقف الشاب السوري أو العراقي أو اليمني أو الليبي.. الذي يعاني من ويلات الحروب بالوكالة، والحروب الطائفية الرجعية، عندما يشاهد برنامج مثل أراب أيدل؟ ألا يدفع هذا البذخ الشباب إلى الإنحراف لتحقيق الغرائز البشرية؟ ألا يُفقد هذا البذخ قيمة العمل وقدسيته؟ ألا يروج فكرة "الثراء السريع" أو "الشهرة المزيفة"؟، علماً أنّ كلّ ما يتم صرفه على المتسابقين في أثناء البرنامج، سيتم تعويضه خلال عقود "الاحتكار" التي ستبرم مع الفائز في البرنامج.
ما لفت انتباهي خلال الحلقة النهائية للموسم الأخير، جلب صور مباشرة من فلسطين والسعودية لمجموعة من "الحشود" كما وصفهم غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجيا الحشود"، لدعم المتسابقين الفلسطينيين واليمني. ما هي الرسالة المراد إيصالها من تلك الصور؟ وما هي الصورة التي نُريد أن ننقلها إلى العالم؟ هل لدى الشعب الفلسطيني كلّ هذا الترف لكي يتجمّع لدعم متسابق مشارك في برنامجٍ أميركي؟ وهل لدى الشعب اليمني الذي يعاني من شبح "المجاعة" الحقيقية كلّ هذا الترف للتجمهر في السعودية أمام عدسات الكاميرا ليدعم يمنيٍّ؟ ماذا سيقدم الفائز بالبرنامج مقارنةً بالسلبيات والسموم الاجتماعية المضرة التي يبثها البرنامج؟ وهل ما نحتاجه أغنيتان أو ثلاثة من فنانٍ شاب وسط الدمار الذي نعاني منه؟ لماذا لا يتم الاهتمام بهذا الشكل بالبنية الفوقية المنتجة للحضارة؟ لماذا نهمّش المثقفين والمفكرين والعلماء وكلّ مَنْ على يديه نرتقي ونخرج من الحضيض؟
المعروف في علم الاتصال أنّ البرامج السياسية المؤدلجة لا تكون ذات تأثيرٍ كبير على المتلقين، لأنّها تهدف إلى "التأثير" الأيديولوجي الذي يتسم، هو الآخر، بالتغيُّر في أثناء رحلة الإنسان على هذا الكوكب، أما البرامج الثقافية، ولكي أكون دقيقاً برامج "التسلية" التي تُعرض، فهي تعمل ببطء، لكنها خطيرة، لأنها تهدف إلى تغيير السلوك، وتنميط المجتمعات (من الأدوات المستخدمة الإعلانات التي يتم عرضها)، بما يتوافق مع سياسة أميركا العولمية التي ترتكز على: حرية الحركة، هيمنة التدفق الأحادي الجهة، تسلُّط شركات متعددة الجنسيات، عولمة النمط الأميركي، وخدمة الشركات الأميركية بما في ذلك المنتجة "للتكنولوجيا" الجديدة.
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
5ADE5A47-E143-4BFB-9A04-F3543E66FC8B
بشير الكبيسي (العراق)
بشير الكبيسي (العراق)