"آخر الأراضي".. ترحال في سفينة أنطوان الدويهي

07 يناير 2018
(منحوتة لـ ديانا الحديد/ سورية)
+ الخط -

في كتابه "كائنات من نسج الخيال"، يحدّثنا خورخي لويس بورخيس عن طائر أسطوري لدى الشعوب الأرومية في أميركا اللاتينية، مزيّته أنه يبني عشه عكس سائر الطيور، ويطير ناظراً إلى الوراء، كأنّه لا يكترث إلى أين هو ذاهب، بل من أين جاء.

أنطوان الدويهي، عندي، هو هذا الطائر، المحلّق دوماً، ناظراً إلى الوراء، مسافراً إلى الداخل، إلى الأعماق الأثيرة لديه، إلى الأماكن الأخّاذة، والمهدّدة في جمالها وجوهرها، في البلد الذي لم يعد للجمال فيه مناخ ولا مواسم. كتاباته ليست سوى ذريعة لهذا السفر. يتساقط فيه على نفسه كأزاميل النحّاتين. كمن يحاول الاغتسال من إثم لم يقترفه، أو التطهّر من خطيئة لم يرتكبها.

ولا أظن أن اختياره سكبَ هذا الحوار حول روايته، في عالم الترحال والسفر، بعد أن سبق له أن اختار الموسيقى والرسم إطاراً لحوار آخر، إلا ترسيخاً لمعتقد مفاده أن الهدف من الكتابة - الهدف الأسمى - كما الموسيقى والرسم، والسفر، ليس الوصول إلى مكان معين، بل هو نظرة جديدة إلى الناس، والأشياء، والعالم. لا أعتقد أن ثمة فعلاً يشبه فعل الكتابة، لا بل يتماهى معها، مثل السفر.

السفر ليس من أجل الوصول، بل من أجل السفر. من أجل أن نصل متأخرين. أو من أجل أن لا نصل أبداً. هذا التقاطع الرهيف بين الكلمات والطرقات، نشتهي أن لا ينتهي. نخاف أن ينتهي هذا الذي يسمّيه أنطوان الدويهي "العالم الداخلي.. العالم الحقيقي الوحيد"، ويقول إن "الحياة الداخلية هي الكون برمّته، وعندما تنطفئ الحياة الداخلية، ينطفئ الكون".

والسفر إلى الداخل، حيث المطارح تبقى ماثلة بعمق في فسحة الذات، هو أقرب ما يكون من كتابات الدويهي، التي تكشف لنا عن حقول فسيحة في أعماقنا، لم نكن نعرفها. وإذ ندخل إليها، نكتشف مزيداً من مجهولاتنا وتتعدّل دروبنا - هذا على الأقل ما يحصل معي - ونزداد فهماً لهذا المنفى المتحرِّك، الغامض والفسيح الذي نعيش فيه، والذي نظلّ، نحن، فضاءه أنّى توجّهنا.

آنذاك تتكشّف لنا أسئلة، أعمق ما فيها أنها تبقى بلا أجوبة. ونكتشف أن هناك غموضاً يتعذّر جلاؤه، وسوف تكون الحياة نفسها متعذّرة إذا جلوناها بشكل كامل. ثم نكتشف أن الغموض نفسه سفرٌ، وأنه هواءٌ آخر نتنشّق، لكي تصبح إقامتنا على هذه الأرض أكثر متعة، وأكثر جاذبية.

منذ أن ألِفتُ كتابات أنطوان الدويهي، وأتيح لي أن أطلّ على بعض دخائله الكثيفة الصافية، صرت أقارب أدبه تماماً كرحلة موعودة: أبدأ القراءة بلهفة وقلق، وأنتهي بحسرة وكآبة لذيذة، وتوق إلى العودة مع صديق، مع حبيب، مع كل الناس. كالمسافر أنطوان عندما يكتب، يقيم في كل الأمكنة، ولا يقيم في أي مكان.

المكان عنده أصلٌ مسكونٌ بهاجس الترحّل، كالجذر المسكون بالفرع. إنه انشقاقٌ يحمله الإنسان في ذاته: بين كينونته وصيرورته. كأن الترحّل أفق الأصل، كأنه، لذلك، ماهيته.

ونحن، حين نلغي الترحّل، نلغي غنى العالم، أي أسراره ومجهولاته التي ليس أقدر من الكتابة على كشفها، واختزانها. هكذا نترحّل لكي نكتشف العالم، مقامنا فيه، إقامتنا.

والكتابة مكانٌ لهذا الترحّل، لهذا الكشف المعرفي. إنها السفر الذي يكتشف السرّ فيما يبقيه طي الخفاء. إنها الجسد مترحّلاً، طبيعة ثانية، أو كأنها الطبيعة وقد تحوّلت أبجدية. الطبيعة التي يشعر أنطوان بعذاباتها وآلامها، كما يشعر بعذابات الناس وآلامهم. ولا يملك غير الكلمة ضمادةً لهذه العذابات والآلام.

من أجمل ومضات فيديريكو غارثيا لوركا، وأشدّها كثافة، ما يقوله عند التهيّب للكتابة، كما لو أنه على سفر أخّاذ وعسير: "سوف لن نصل. لكننا ذاهبون!".

السفر، الكتابة، لكي نعيش الحياة اليومية للآخرين كما لو كانت حدثاً استثنائيّاً، يشبهنا ولا يشبهنا، نتذرّع به، ونتقمّص عالماً آخر، نحلم له، ننشده ونتوق إلى العيش فيه، عن إدراك أو غير إدراك.

وها هو أنطوان الدويهي يتساءل في "آخر الأراضي" (2017): "كيف عندما ينوجد الإنسان في مكان آخر، ناءٍ، يمكن أن يصبح إنساناً آخر، يبدأ حياة أخرى، لا علاقة لها بحياته؟". هكذا تجري الكتابة في نهر اللغة والعالم، كمثل سفينة تعانق اللجة فيما تحتضن الضفاف. كأنها المكان مهاجراً داخل المكان.

المساهمون