تهاوي "العرّاب" الأميركي؟

29 ابريل 2023
+ الخط -

لا كلام في العالم يعلو على أحاديث الحروب والتغير المناخي والجوع والذكاء الاصطناعي وغيره، سوى "تراجع الدولار عالمياً"، وبالتالي "أفول النفوذ الأميركي" في الكوكب. الأرقام لا تكذب. بوشر العمل بسلّة عملاتٍ في الاتفاقيات التجارية بين بلدان عدّة. وفي كل سلة من هذا النوع، يظهر اليوان الصيني متقدّماً على سواه. الأكيد أن الاعتماد على الدولار في التجارة البينية والأعمال ودعم الاحتياطيات المالية لمختلف الدول بات أقلّ من قبل، ولو بنسبة ضئيلة قياساً على حجم الأموال المتداولة في العالم. أجراس الإنذار قُرعت في الأسواق المالية الأميركية لهذا السبب. هنا يصبح السؤال: هل ستسقط الإمبراطورية الأميركية وتندثر، كما أسلافها من الإمبراطوريات؟

حسناً، لفهم مستقبل الولايات المتحدة، علينا فهم نظامها، المنبثق من مرتكزين: الصلابة والمرونة. تنبع صلابة النظام الأميركي من تشابكه المعقّد في الصلاحيات الفيدرالية والاتحادية، بما يجعله نظاماً مغلقاً أشبه بطاقة ذاتية الدفع. أما مرونة هذا النظام فتتجلى بالتعديلات القانونية المولودة من التطوّر المجتمعي. أميركا قبل الحركة المدنية في الستينات شيء، وأميركا بعدها شيء آخر. أميركا قبل التسريبات الاستخباراتية على مرّ العقود، وجديدها أخيرا تسريبات جاك تيكسيرا، شيء، وأميركا بعدها شيء آخر. صلابة النظام ومرونته مبنيّتان على حركةٍ لا تهدأ. الحركة أساس التطوّر، والجماد مقبرة الفرد والمجتمعات. هل هذا النظام مثالي؟ لا شيء مثالياً في عالمنا، لكنه يبقى النظام الأمتن. هل هو أخلاقي؟ الأخلاق في سلّم الأنظمة نسبية.

ولمحاولة دراسة مستقبل أميركا يجب عدم تجاهل ثوابت عدة، منها أن السعر المتداول لكل أنواع الطاقة والمعادن والعملات الرقمية وغيرها من أساسيات هذا العصر هو بالدولار. ومن الثوابت أيضاً أن التقدّم التقني، خصوصاً على صعيد الذكاء الاصطناعي، هو قاطرة بقيادة أميركية. الهيمنة خارج الكوكب أميركية أيضاً. ويجب هنا عدم نسيان انتشار أكثر من ألف قاعدةٍ عسكريةٍ أميركيةٍ في العالم تضمّ أكثر من 250 ألف جندي، وحقيقة أن الجيش الأميركي هو الأقوى عالمياً. وسائل التواصل الاجتماعي أميركية في معظمها. الإنترنت أيضاً. لا أحد قادر على فرض عقوباتٍ مؤذية اقتصادياً في العالم مثل الولايات المتحدة، بمعزلٍ عن أحقّيتها.

الآن، يُمكن البدء بمحاولة استشراف مستقبل الولايات المتحدة. هل يتجاهل الأميركيون هذه التحوّلات المالية، أو حتى يرفضون الانتباه لها؟ طبعاً لا. هل قاموا بردّ فعل ما؟ أقله ليس بالشكل الذي يعرقل صعود سلّة العملات. هل هو إهمال سيؤدّي إلى سقوطهم، أم هم مدركون أن هذه التحوّلات المالية لا تأثير فعلياً لها، لا على اقتصادهم ولا على نفوذهم؟ هل سيستفيدون من هذه التحوّلات بطريقة ما؟ لا أحد يملك الجواب سوى الأميركيين أنفسهم.

كيف يمكن تصوّر رد الفعل في واشنطن في حال تبلور مخاطر تهدّد نفوذ الولايات المتحدة، وتالياً وجوديتها؟ بطبيعة الحال، وبناء على مفهوم "الإستابلشمنت" الأميركي، سيكون هناك ردّ فعل. سيكلّف بعض الشيء، لكنه سيضع حدّاً لأي تهديد يطاول أميركا. لا يمكن التفكير بمبدأ أن الأميركيين ينتظرون أن يأتي الجميع إليهم لذبحهم، وهم راضون بذلك. الاستهانة بالولايات المتحدة خطيئة كبرى، تُضاهي خطيئة الاعتقاد بأنها "آتيةٌ للإنقاذ" في مكانٍ ما على هذه الأرض. وما من ضربةٍ وُجّهت للأميركيين إلا وعادوا منها سريعاً وأقوى عما قبل. هل هم بلد مختار؟ طبعاً لا، بل إن حركية نظامهم يسمح لهم بالبقاء منتصرين على حلبة القتال.

الولايات المتحدة كعائلة كورليوني في فيلم "العرّاب"، مولودة من الشوارع. بَنَت أمجادها من لا شيء، ثم باتت من أقوى العائلات المافياوية. وحين ظنّ خصومُها أنها تتهاوى بعد إصابة مؤسّسها وحاولوا توجيه ضربة قاضية لها، قام ابن العرّاب بردّ فعلٍ عنيف بتصفية جميع الخصوم، بعبارة واحدة: "اليوم أنا أُصفّي كل حسابات العائلة". ليس هذا فحسب، بل عزّز هيمنتها في عالم المافيات.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".