هل يمكن للتجربة الديمقراطية تحقيق التغيير؟

25 سبتمبر 2024
+ الخط -

في كلِّ منعطفٍ سياسيٍّ تشهده البلاد، تطفو على السطح بياناتٍ وتصريحاتٍ صادرة عن أحزاب وتجمّعاتٍ سياسيّةٍ في العراق تدعو فيها السلطة إلى التحلّي بالوطنيّة والعمل على معالجةِ الأزمات التي يعاني منها الوطن والمواطن. الغريب أنّ غالبيّة هذه الأحزاب لا تمتلك دورًا فعليًا في تشكيلِ السياسة العامة للبلاد، سواء على الصعيد التشريعي أو التنفيذي. فمنذ بداية ما يُسمّى بـ"التجربة الديمقراطية"، أصبحت القرارات والسياسات حكرًا على مثلثِ السلطة المُتحكّم بمصير البلاد، سياسيًا واقتصاديًا.

في ظلِّ هذا الاحتكار، تتحوّل المناشدات والبيانات الصادرة عن تلك القوى السياسيّة إلى مجرّد صيحاتٍ في وادٍ، لا يمكن أن تؤثّر على واقعٍ تتجذّر فيه مشاكل وأزمات مستدامة منذ الغزو الأميركي للبلاد. فالمشاكل لا تتجمّد في مكانها فقط، بل تتناسخ وتتفرّع، لتتحوّل إلى أزماتٍ أشدّ تعقيدًا واستعصاءً على الحل.

شهدنا مؤخرًا تحرّكًا من قبل بعض الأطراف المدنيّة التي تمكنت من الحصول على عددٍ من المقاعد في انتخاباتِ مجالس المحافظات. ورغم أنّ هذه المقاعد لم تكن مؤثّرة بما يكفي لتغيير معادلة الحكم في تلك المحافظات، إلّا أنّها اعتُبرت خطوة أولى في طريقٍ طويلٍ نحو تغيير الوضع الكارثي الذي تعيشه البلاد. ولكن سرعان ما جاءت الرياح بما لا تشتهي سفن هؤلاء، فاستمرّ بحر المُحاصصة في غمر الوطن في ظلامه دون أمل.

المشاكل لا تتجمّد في مكانها فقط، بل تتناسخ وتتفرّع، لتتحوّل إلى أزماتٍ أشدّ تعقيدًا واستعصاءً على الحل

ففي خطوةٍ تعكس تعقيد المشهد السياسي، قامت قيادة أحد التحالفات المدنيّة مؤخرًا بإصدار بيان أعلنت فيه إنهاء عضويّة حزب منضوٍ تحت لوائها بسبب عدم التزامه بمبادئ التحالف. تفسير هذه الخطوة يذهب في اتجاه واحد: المال والمناصب. فكما اشترت قوى الفساد بعض النشطاء والنواب بعد انتفاضة أكتوبر، تكرّرت التجربة هنا أيضًا، مؤكّدين أّن الوطنية مفهوم مُتآكل لدى كثيرين في ظلِّ هيمنة الطائفيّة والقوميّة والعشائريّة.

ورغم هذا التصرّف الصارم من التحالف تجاه أعضائه، إلّا أنّ البيان الذي أصدره لاحقًا بدا متناقضًا. فقد دعا التحالف القوى الوطنية لتشكيل لجان رقابة شعبيّة لحماية المال العام. ولكن من هي هذه "القوى الوطنية" التي يُعوّل عليها في ظلّ حالةِ التشرذم السياسي وفساد النخب؟ هل هي نفس القوى التي لا دور لها على أرض الواقع، ولا تأثير سياسيا أو شعبيا؟ أم أنّ الدعوة موجّهة إلى أحزابٍ مثّلث السلطة، التي هي في الأصل مصدر الأزمة؟ هنا يمكننا القول بكلِّ صراحةٍ: كيف يمكن للثعلب أن يحرس قنّ الدجاج؟

الواقع هو أنّنا نمرّ بأزمةٍ وطنيّةٍ حادة، وهذه الأزمة دفعت الجماهير المُكتوية بنارِ الفقر والبطالة، نحو مشروعِ المُحاصصة رغم إخفاقاته المستمرّة. ومع غياب مفهوم الوطنيّة الحقيقيّة، يبقى السؤال المطروح: هل الجماهير هي من تتحكّم في أحزاب السلطة، أم أنّ هذه الأحزاب هي التي تسيطر على الجماهير؟

الوطنيّة مفهوم مُتآكل في ظلِّ هيمنة الطائفيّة والقوميّة والعشائريّة

بغضِّ النظر عن الإجابة، يبقى الوطن بالنسبة للكثيرين اليوم بيتًا غريبًا، وطنًا افتقد فيه المواطن أبسط مقوّمات الحياة الكريمة. فالسلطة المُمسكة بزمام الأمور تفتقر إلى حسِّ المسؤوليّة الوطنيّة والأخلاقيّة، لتتحوّل إلى مجرّد أداةٍ تحرّكها عواصم إقليميّة ودوليّة وفق مصالحها.

إذاً، كيف نخرج من هذا المأزق؟ ربّما تكون إعادة تجربة انتفاضة أكتوبر الحلّ الأقرب، انتفاضة تفرض مفهوم الوطن والوطنيّة من جديد، وتضع أسسًا جديدة لدولةٍ توزّع ثرواتها بعدالةٍ ومساواة. عندها فقط، يمكن أن نرى الأحزاب الفاسدة، وقد أُزيحت عن المشهد، ليبدأ الوطن فصلاً جديدًا من تاريخه، فصلًا يستعيد فيه المواطن كرامته ويشعرُ فيه بأنّ الوطن يتسع للجميع حقًا.

إنّ الأزمة التي يعاني منها العراق اليوم ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات بدأت منذ سنوات طويلة، وتفاقمت بشكلٍ كبير بعد الغزو الأميركي. تراكمات من الفساد والمحسوبيّة والانقسامات الطائفيّة والقوميّة التي جعلت من مفهوم "الوطنيّة" شعارًا فارغًا لدى الكثير من القوى السياسيّة. وفي ظلّ هذا الواقع، تصبح كلّ دعوة للإصلاح أو التغيير مجرّد صدى يتلاشى في أروقة السلطة، التي تكتفي بإصدار بيانات تفتقد إلى أيّ نيّةٍ حقيقيّةٍ للتنفيذ.

السلطة المُمسكة بزمام الأمور تفتقر إلى حسِّ المسؤولية الوطنية والأخلاقية، لتتحوّل إلى مجرّد أداة تحرّكها عواصم إقليمية ودولية وفق مصالحها

لقد أثبتت السنوات الماضيّة أنّ مناشدات الأحزاب المعارضة، رغم أهميتها، لا تجد صدى لدى الجهات المُتحكّمة بمفاصل الدولة. فهذه الجهات، المُتمثّلة بمثلث السلطة، تكرّس جهودها للحفاظ على امتيازاتها، وتدير اللعبة السياسية بما يضمن استمرارها، وبينما تستمر في تجاهل أصوات التغيير، تبقى الأزمات المستعصيّة حاضرة في يوميّات المواطن العراقي، من نقصِ الخدمات الأساسية إلى تفشّي البطالة والفقر.

ما يحتاجه العراق اليوم ليس فقط تغيير الوجوه أو الأحزاب، بل إعادةِ بناء مفهوم الوطنيّة على أسس جديدة، بما يجعل الانتماء للوطن فوق كلّ اعتبار. فالتقدّم والازدهار لن يتحقّقا إلا بتضافر جهود جميع العراقيين، بعيدًا عن المصالح الضيّقة. وهذا يتطلّب وجود قيادات سياسيّة حقيقيّة تمتلك الرؤية والشجاعة للوقوف في وجه منظومة الفساد والمحاصصة، وتضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كلِّ اعتبار.

إنّ إعادة تجربة انتفاضة أكتوبر قد تكون إحدى الطرق لاستعادة المبادرة وتحقيق التغيير المنشود. انتفاضة لا تتوقف عند حدود الاحتجاج، بل تتطوّر إلى حركةٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ واسعة، تعمل على بناءِ بديلٍ حقيقيٍّ للنظام القائم. ولكن لتحقيق هذا الهدف، يجب أن تكون هناك رؤية واضحة وبرنامج عمل قادر على مخاطبةِ هموم الناس وتوحيدهم حول هدفٍ مشترك. 

إلى أن يتحقّق هذا التغيير، سيظلّ العراق يعاني من أزماته المتكرّرة، وستبقى الأصوات المطالبة بالإصلاح مجرّد نداءات في فراغ، ما لم تجد من يحملها بصدقٍ إلى ساحات الفعل. فالطريق طويل وشاق، ولكنّه الطريق الوحيد لإنقاذِ وطنٍ يتسع للجميع، ويمكن فيه للمواطن أن يجد كرامته ومستقبله.