مونديال غزة والركلات المهدورة

17 يوليو 2014

متضامنون مع غزة أمام السفارة الإسرائيلية في بانكوك (يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

الوقائع الدامية هي هي، والسيناريو هو هو. إنه يتكرر باستمرار، مثل طقوس العزاء في القرى العربية النائية والمعزولة. تبدأ الأمور هكذا: عملية عسكرية ضد الاحتلال، قصف إسرائيلي بالطيران، اغتيال قادة ومسؤولين، الرد بالصواريخ، مشاهد مروِّعة للموت، بيوت مهدمة، مراكز مدمرة، ملاجئ، بطولات، جثث سود متفحمة، ناجون من الجحيم. ثم، في لحظةٍ ما، تبدأ الدبلوماسية: مجلس الأمن، وقف النار، التهدئة العسكرية، ثم يتبارى كثيرون في التبرع بالأموال، لإعمار غزة مجدداً، والتعويض على أسر الشهداء والمتضررين، ثم... جولة ثانية من القتال.

هذا ما جرى في عمليتي "الرصاص المصبوب" (2008) و"عمود السحاب" (2012) وفي عملية "الجرف الصامد" الجارية ويلاتها اليوم. وفي معمعان هذه الأهوال، ما عاد لغزة مَن يُنجدها في نجد، أو يحجز العدوان عنها في الحجاز، ولا في أرض الكنانة أو الشام أو العراق. ومِن المصادفات التاعسة أن الهجوم الإسرائيلي اندلع في ذروة مباريات كأس العالم لكرة القدم، وفي خضم أجواء رمضان، حيث تُطبِق الدراما السورية والدراما المصرية على "نخاعات" المواطنين، وعيونهم وحواسهم وأنفاسهم، طوال شهر كامل. وبهذا المعنى، صارت غزة فضاء مفتوحاً للفرجة الهاذية، تماماً مثل ملاعب كرة القدم في بلاد الأرجنتين، لكن الشهداء في غزة حقيقيون، وليسوا ركلات ترجيح مهدورة.

الجيش الاسرائيلي الذي جُنَّ جنون قادته السياسيين، بعد توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية في 23/4/2014، أراد، بعملية "الجرف الصامد"، أن يقوض هذه المصالحة، وأن يعيد اختبار قدراته على الردع، وأن يزرع الفوضى في المناطق المحتلة والمحاصرة، وأن "يشرشح" السلطة الفلسطينية، وأن ينتقم من "حماس" والفصائل المقاتلة الأخرى. ومع أنه لم يتمكن سابقاً، ولن يتمكن، اليوم، من نزع سلاح الفلسطينيين في غزة، فإنه، مع ذلك، قدم إلينا مكسباً مهماً هو اختبار موقف النظم العربية من هذا العدوان بالتحديد.

وقد كان أمراً مستهجناً حقاً ألا تتخذ بعض الحكومات التي قامت على أنقاض النظم الاستبدادية القديمة أي موقفٍ يختلف عن مواقف تلك النظم البائدة. فالنظام المصري الجديد ظهر كأنه انحدر دون حسني مبارك، وتحول إلى مجرد متفرج، حتى إن الناطق باسم خارجيته لم يرَ في العدوان إلا "عنفاً متبادلاً". أما "المبادرة المصرية" المضحكة فقد سمع بها الفلسطينيون، وهم المعنيون بها أولاً وأخيراً، من وسائل الاعلام. والأنكى أن السعودية صمتت سبعة أيام كاملة، وهي عدد أيام الخليقة، ثم أصدرت بياناً دانت فيه العدوان (يا سلام!). لعلها كانت تنتظر أن يجف حبر التغزل بالإسرائيليين الذي دلقه الأمير تركي الفيصل، عشية العدوان.

ما تخشاه إسرائيل، هو أن تصبح عملية جلعاد شاليط طريقة يحتذى بها لتحرير الأسرى، وأن يكرس الفلسطينيون حقهم في المقاومة، بجميع الأشكال المتاحة. وإنه لأمر مدهش أن يصمد الفلسطينيون في غزة، وأن يقاتلوا بما ملكت أيمانهم في خضم هذه الأحوال العربية المروِّعة، وفي أجواء التفرج المشهدي للنظامين المصري والسعودي، ولغيرهما أيضاً. ومهما يكن الأمر، فالمستوطنون مليشيا رديفة للجيش الإسرائيلي، واختطاف المستوطنين لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين أمر مشروع، وهو من أشكال المقاومة. صحيح أن قتل المستوطنين قدّم لإسرائيل ذريعة للانتقام، لكن إسرائيل قادرة، في كل يوم، على ابتداع الذرائع.

وفي أي حال، ما دامت الحرب قد وقعت، فلنخضها حتى النهاية. وحتى لا يعود السيناريو الإسرائيلي نفسه إلى التكرار، كلما رغبت إسرائيل في ذلك، فلا مناص من ترسيخ الوحدة الفلسطينية أولاً، ثم انتزاع قرار فك الحصار نهائياً عن قطاع غزة وإلزام مصر وإسرائيل معاً بمفاعيل هذا الشرط. أما الوحدة الوطنية، اليوم، فهي السلاح الأمضى للفلسطينيين، ولا بد من السعي المحموم إلى تكوين سلطة فلسطينية موحدة حقاً، لأن سلطةً، بإقليمين منفصلين، غير ممكنة، وسلطة بحكومتين غير ممكنة (هذا نوع من الفيدرالية التي لها حكومة واحدة للخدمات وحكومتان للسياسة).

الممكن والضروري هو سلطة واحدة بسلاح واحد، ببرنامج سياسي واحد من أجل التحرير، وبأجهزة إدارية وأمنية مندمجة، مهمتها تنفيذ البرنامج السياسي، ومن دون ذلك، سنكون مثل البقرة التي تركل وعاء حليبها. وفي هذه الحال، سنركل، على غرارها، إنجازاتنا كلها، وسنبكي على اللبن المسكوب، وعلى الفرص المهدورة، وعلى المقاومة المغدورة.