مثقف الهامش

14 ابريل 2015
أدونيس اعتبر بشار الأسد رئيساً منتخباً
+ الخط -
طوال عقود، لم يتح للمثقف السوري حيّز كلامي وكتابي ليعبّر عن نفسه وأفكاره وعلاقته بالثقافة النقدية التحررية أو عدم علاقته بها، مثل ذلك المجال الذي خلقته الثورة السورية، ومثل ذلك المحكّ الذي وَضعت عليه ذلك المثقف. قبلها، كانت القبضة الأمنية الحديدية لنظام المخابرات السورية تُخفي، من ضمن ما تخفيه من علل وانقسامات وتمزقات غير معلنة، مواقف لمثقفين سوريين، كتّاب وشعراء وأدباء وغيرهم، التزموا الكتابة بالعموميات واستعمال الشيفرة والنظام الشيفري في الكتابة، ضد من يفترض أن نقدهم له هو علّة وجودهم كـ"نقديين"، ألا وهو الاستبداد.

ومع طول عمر هذا الاستبداد، وانتقاله عام 2000 من طور الانقلاب العسكري إلى طور التوريث، استمر النقد الجوهري للنظام السوري ممنوعاً بقدر ما أن مديحه لم يكن "فرض عَين" على من لم يوفروا مديحاً له. وبعدها، سقطت ورقة التوت وبدا المثقف الملك عارياً، إلا من موقف أخلاقي يعزز به كينونته كضمير. لا يبدو أن ثمة تقاليدَ آمنة أو سكوناً وصَفواً عامّاً ينبغي تكديره، وسؤالاً تجب إثارته، مثل سؤال الدين، وهو ما كان ملعب وحقل عمل الكثير من المثقفين السوريين والعرب، تفكيكاً ونقداً، مرة باسم "العقل العربي"، ومرة باسم "الإصلاح الديني"، وثالثةً باسم "التنوير".

وبرزت في الثمانينات، أي بعد حوالي عقدين على صدور كتاب "نقد الفكر الديني" لصادق جلال العظم، كتابات ومؤلفات تفكيكية في التراث والفكر، ارتسمت معها أسماءٌ مهمّة لا تزال مكرّسة حتى اليوم، مثل محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وأدونيس وعزيز العظمة وآخرين. وبدا أن سؤال الإسلام بات متلازماً مع سؤال المجتمع "والناس"، ولم تخل تلك الكتابات من تغييب مقصود أحياناً لأسئلة التغيير التي تقع خارج الدائرة الإسلامية، مكتفية برد تخلّفـ"نا" إلى الإسلام أحياناً، وإلى كوننا لم ننسخ أنموذج الحداثة الغربي ونلصقه على واقعنا أحياناً أخرى.

مقابل المدرسة الثقافوية، التي تفسّر كل شيء بثقافتـ"نا" ودينـ"نا" ومجتمعـ"نا"، تكرّست مدرسة نقيضة لها تفسر كل شيء هي الأخرى بالسياسة، وبالأنظمة فقط. هكذا، بقي بعض المثقفين السوريين يكررون أوهام الإصلاح والتغيير والحلول الوسط مع النظام بعد سنوات من اندلاع الثورة السورية، رافعين شعارات تقول بعدم أهلية الشعب السوري، متخوفين من خطر الإسلام السياسي منذ بدايات الثورة، وقبل أن يكون هناك سلاح أو تنظيمات تكفيرية.

لا يملك هؤلاء أي علاقة بالواقع، ولا أي أهلية أخلاقية تجعل كلامهم عن الإسلاميين في بدايات الثورة استشرافياً للمستقبل، وإنما كيديّاً له، وهم الذين لم يسمع لهم قبل الثورة وبعدها أي صوت، باستثناء كلام أدونيس عن بشار الأسد في بداية الثورة باعتباره هذا الأخير "خصوصاً رئيساً منتخباً".

وفي الجانب الآخر، السياسوي، انخرط عدد من المثقفين السوريين في الثورة، لكن بعضهم دخل في أحابيل السياسة اليومية وتحالفاتها واصطفافاتها التي تتعارض وثقافتهم النقدية، فكان المجلس الوطني وغيره من تشكيلات، محرقة ومقتلاً لهؤلاء ولرأسمالهم الرمزي الذي لا قيمة لهم كمثقفين من دونه، خاصة مع وجود طيف إسلامي لم يوفر جهداً في استثمار بعض الأسماء الثقافية اللامعة كواجهة لسياسات أمعنت في ارتكاب الكوارث بحق الثورة. ويبدو أن هؤلاء غير مؤهلين ليخوضوا غمار البحث وطرح أسئلة الإسلام السياسي والحربي والإصلاح الديني وإن امتلكوا الذخيرة الفكرية لذلك، مثلهم مثل من يقفون على الضفة الثقافوية المضادة.

الثقافوية والسياسوية، مذهبان وسلطتان يقبع على رأسهما "مثقفون رؤساء"، و"مناضلون"، يرمون الثقافة النقدية والمثقف الضمير بأسلحتهم الثقافية والسياسية، بصفتهم أهل الحقيقة المطلقة. بين البرج العاجي وفوبيا الإسلام من جهة، والشعبوية والتحالفات القاتلة من جهة ثانية، يبقى المثقف الحقيقي "مثقف الهامش"، ولا نقصد به ذلك الصامت، المتفرج على مقتلة شعبه على يد قاتل "علماني" أو إسلاميين تكفيريين، بل هو الذي يترفّع عن كل ما من شأنه أن يطيح بانحيازه إلى الثورة في دوامة الشعبوية والابتذال. مثقف الهامش هو الذي يعلن موقفه بوضوح من مقتلةٍ ندر أن حصل مثلها منذ بزوغ فجر الحداثة التي يتغنّى بها مواطنوه من المثقفين المكرّسين كأهل طريقة وهداية لـ"عامة الناس". وفي هامشيته تلك يكمن الفارق ويكمن جوهر وجوده.

من قال إن الثقافة المتحررة من النضال ومن سلطة المفاهيم الجاهزة والمسبقة لا تصنع فارقاً!!
المساهمون