لماذا تتأخر الانتخابات البلدية؟

26 اغسطس 2015

(Getty)

+ الخط -
كل الدول العربية التي شهدت ثورات لم تعرف إجراء انتخابات بلدية فيها، ففي عز الفوران الثوري، تم التركيز على إخراج الدساتير التي تتطلب توافقات وتنازلات سياسية، أخذت وقتاً كثيراً لوضعها. وعلى الرغم من أهميتها، تبقى الدساتير مجرد نصوص عامة، لا أثر لها مباشراً على أرض الواقع، ولا تأثير لها فورياً على حياة المواطن. وقد رأينا كيف نجحت الثورات المضادة في مسخ تلك الدساتير، أو محوها نهائيا، واستبدالها بنصوص أخرى شكلية، لا يهم ما سيتم وضعه داخل بنودها من مبادئ وأفكار، ما دامت ستبقى مجرد شعارات أو نصوص بدون روح. 
وأقصى ما بلغته ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا هو تنظيم انتخابات تشريعية، وهذه تحتاج، هي الأخرى، إلى تسويات وتفاهمات وتحالفات، وقد استنفذ كل ذلك وقتاً ضائعاً كثيراً كانت الثورات في حاجة ماسة إليه، لتجسيد شعاراتها في الواقع، حتى يحس بها الشعب. والبرلمانات، مهما كانت ديمقراطية وممثلة للشعب، تبقى سلطاتها محدودة في خدمة المواطن، فهي مجرد آلة لإنتاج نصوص تشريعية وآلية لمراقبة آداء الحكومة. وفي العالم العربي، ترسخت في ذهن المواطن صورة سلبية عن برلمان بلده، بسبب البرلمانات الشكلية والمزورة التي كانت تؤثث بها الأنظمة المستبدة بلدانها، وحولتها إلى غرف للتسجيل والمباركة والتصفيق والتهليل.
الآن، وبعد مرور أربع سنوات على ثورات "الربيع العربي"، وقد اختلفت المآلات، وتعددت مصائر تلك الثورات، ألم يكن من الأوْلى، بدل كل الوقت الضائع والمال الذي صرف، البداية من تنظيم انتخابات بلدية قبل الدخول في النقاشات الماراثونية لإعداد الدساتير التي انتهت حبراً على ورق لمن صمد منها، وإنفاق جهد ومال كثيرين من أجل برلمانات بسلطات شكلية، رأينا كيف أصبحت أثراً بعد عين، عندما قامت الثورات المضادة؟

وحتى بالنسبة للثورة التونسية التي ما زالت تمثل بصيص الأمل المتبقي من ثورات "الربيع العربي"، فرغم مرور أربع سنوات على قيام الثورة، ما زالت البلاد تسير ببلديات من العهد القديم، والانتخابات البلدية التي ستفرز بلديات تعكس روح الثورة وشعاراتها ما زالت تؤجل من دون سبب، ومن دون تحديد موعد واضح لها. ماذا يعني هذا؟ الجواب عن السؤال يجده كل زائر لتونس في شوارعها وأزقتها. فبعد أربع سنوات من الفراغ في التسيير البلدي، وتوقف الاستثمارات في البنيات التحتية وبنيات الخدمات الأساسية والضرورية، أصبح الوضع سيئاً في شوارع المدن التونسية، وتدهور أداء مرافق الخدمات من نظافة وتطهير وصيانة وكهرباء وماء ونقل وصحة. وهذه الخدمات كلها من مسؤولية البلديات، وليست من مسؤولية الحكومات أو البرلمانات.
ويبدو أن تأخير وتعطيل إنجاز الانتخابات البلدية في الدول العربية التي شهدت ثورات شعبية، بقدر ما كان خطأً فادحاً ارتكبته القوى الثورية، وأدت ثمنه غاليا، بقدر ما يتجلى اليوم، مع مرور الوقت، أمراً كان مدبرا من أجل تأليب بسطاء الناس الذين صدقوا شعارات الثورات ضد الثورات نفسها. فالطريقة الوحيدة والسريعة التي كان يمكن أن تجعل المواطن يشعر بتأثير الثورة المباشر على حياته اليومية هي خدمته المباشرة. وهذه مهمة المجالس البلدية التي لم تمسسها رياح الثورة.
ربما كان من شأن البداية بإجراء الانتخابات البلدية في الدول العربية التي شهدت ثورات شعبية أن تحصّن تلك الثورات من الداخل، وأن تجد لها حواضن شعبية، والأهم تحويل المجالس البلدية إلى مدارس ثورية، لتعلم مبادئ الديمقراطية. فالانتخابات البلدية توصف في الأدبيات القانونية بـأنها مدارس لتعلم الديمقراطية ومشاتل لتكوين ديمقراطيين. فساسة كثيرون في العالم مرّوا من المجالس البلدية، قبل أن يصلوا إلى سدة الحكم في بلدانهم، من الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، الذي كان عمدة باريس قبل أن يسكن قصر الإليزيه، إلى الرئيس التركي الحالي، رجب طيب أردوغان، الذي صنع مجده السياسي عندما كان عمدة اسطنبول. وقبله الرئيس الإيراني الأسبق، أحمدي نجاد، الذي برز نجمه عندما كان رئيسا لبلدية طهران، ينزل إلى شوارعها لينظفها مع عمال النظافة.
تعد الانتخابات البلدية محطة أساسية لتعلم الممارسة الديمقراطية وترسيخها، وتلقين إدارة الشأن العام، واستيعاب مبادئ التسيير، والمجالس البلدية هي برلمانات محلية مصغرة، وعندما تكون منتخبة ديمقراطياً تتحول إلى فضاء لإشاعة ثقافة التعددية والمعارضة والاختلاف والمحاسبة. وهذا ما يجعل الأنظمة المستبدة تخاف من هذه الانتخابات، وتلجأ إلى تزويرها، أو تأجيلها، أو بكل بساطة منعها، كما يحصل في دول خليجية لم يسبق أن عرفت انتخابات بلدية.
وإذا كانت الثورات المضادة قد نجحت، فقد تحقق لها ذلك عبر تأخير هذه الآلية وتعطيلها، وما دامت هذه الآلية معطلة في بلدٍ، مثل تونس، ما زال يجسد آخر بصيص أمل لثورات "الربيع العربي"، فإن كل تأجيل لانتخاباتها البلدية يغذي كُفر المواطن بالثورة، ويجعله يحن إلى العهد القديم. لذلك، لا يجب أن نفاجأ إذا ما أعلن في تونس عن إسقاط الثورة، لأن سندها الشعبي يتآكل يوماً بعد يوم.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).