كراكون في الشارع

29 أكتوبر 2014

كرافان قيد الإنجاز في خزاعة في قطاع غزّة (سبتمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

مع قطرات الندى، كنت أنتظره أمام باب البناية، حيث يصل بعربته التي يجرها حصان، والمحمّلة بأنواع الخضار العضوية، ما جعلني أشتريها، حرصاً على صحة عائلتي، ويوماً بعد يوم، بدأت أتجاذب الحديث مع الرجل العجوز، بوجهه الطيب الذي لوحته شمس قريته الحدودية، خزاعة التي تعرضت لأكبر مجزرة في العدوان الإسرائيلي أخيراً.
وصف لي بيته المكون من عدة طوابق، ويعيش فيه أولاده مع عائلاتهم، فيما يقضي أيامه مع زوجته في الطابق الأرضي، ويزرع قطعة أرض صغيرة حول البيت بهذه الخضار، ويبيعها لأهل المدينة.

مرت أيام، بعد انتهاء العدوان، افتقدته فيها، حتى سمعت صوته ينادي ذات صباح، فنزلت مسرعة لأجده يجرّ عربة يد صغيرة، محملة بالخضار أيضا، وروى لي، بعينين دامعتين، كيف هدمت الحرب بيته، وشردت عائلته، وأنه يعيش وحيداً مع زوجته في خيمة، فيما ترك" كرافانا" تسلمته العائلة لأولاده وعائلاتهم، ولم أكن احتاج ذكاء لاستنتج أن حصانه نفق، وأنه يحصل على الخضار من بائع جملة، ولم تعد لديه أرض يزرعها.
حال هذا البائع العجوز مثل حال كثيرين من أهالي غزة الذين اعتادوا نمطاً خاصاً في السكن، فنادراً ما تجد في القرى المحاذية للمدن بيتاً بلا قطعة أرض حوله، يستغلها أصحاب البيت في الزراعة، ويطلق عليها اسم "الحوش"، وهي مكان للسهر والسمر واجتماع أفراد العائلة الممتدة في غزة.

البيوت التي هدمت، في أثناء العدوان على غزة، أعادت تاريخاً أسود في حياة الفلسطينيين، هو تاريخ النكبة، حين وزعت "أونروا" الخيام على اللاجئين، فيستذكر أبي بطاقات صغيرة، كانت تلصق على الخيام، كتب عليها "أغيثوا 750 ألف لاجئ فلسطيني"، فيما يبلغ عدد لاجئي عدوان غزة، حالياً، نحو نصف مليون ممن فقدوا بيوتهم.

خيمة نكبة عام 1948 كانت نوعين، صغيرة للعائلة قليلة العدد، واسمها "خيمة أمّ جرس واحد"، و"خيمة أمّ جرسين"، وهذه ضعف مساحة تلك، وتخصص للعائلة الكبيرة العدد، ثم طورت "أونروا" خدماتها، وبدأت بناء البيوت الطينية، وكانت تخلط الطين بالتبن؛ ليصبح أكثر صلابةً وتماسكاً وتسقفها بالصفيح.

مع بقاء غزة تحت حكم الإدارة المصرية، حتى يونيو/حزيران 1967، كانت تلك الإدارة ترفض السماح للاجئي غزة استبدال البيوت الطينية ببيوت مبنية بالإسمنت، لسبب وجيه، كان يراه الحاكم العسكري المصري المنتدب في غزة آنذاك، وهو بتعبيره: عشان ما ينسوش القضية ...

بعيداً عن رأي ذلك الحاكم، أدخلت النكبة الجديدة نمطاً جديداً من مراكز الإيواء، مغزاه التهجير والتشريد. ولأن قرية خزاعة شرق خان يونس هي الأكثر تضرراً، فقد أقيم على أرضها الخراب نحو 100 كرافان، صنعت محلياً وسريعاً من الصفيح، ما يجعلها قبراً جماعياً مناسباً، إذا ما أصابتها صاعقة في فصل الشتاء المقبل على الأبواب، وهي غير مثبتة جيداً في الأرض، فسوف تقتلعها الرياح العاصفة، علاوة على تسرب المياه إليها، ولو سمح ببعض الترف للمشردين "بالكرافانات" المستوردة العالية الجودة، فيبقى هذا النمط للسكن غير ملائم لحياتهم، فقد اعتادوا على البيوت الواسعة، إلى درجة أن يطلقوا على الغرفة الواحدة بسبب اتساعها اسم "البيت"،  فهذه البيوت تساعدهم في قضاء حوائجهم، كأناس بسطاء، يعدون خبزهم في البيت، ويحتاجون مكاناً لفرن الطابون مثلاً.

إذا كان عادل أمام قد أقام "كراكون" في الشارع، لينقذ حياته الزوجية، فإن "كراكونات الشارع" في غزة ليست حلاً مناسباً مع حلول الشتاء. وأمام تعنت إسرائيل ورفضها إدخال مواد البناء لإعادة الإعمار، بحجة الخوف من استخدامها في بناء الأنفاق، وتغفل إسرائيل أن الأنفاق لن تبتلع أكثر من 1% من كمية الإسمنت المقررة لإعمار غزة، وسيكون سهلاً تسريبها، لكن إسرائيل مصممة على استمرار مسلسل اللجوء الفلسطيني بصور مختلفة. 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.