جنّاز الغربان الغائبة

23 اغسطس 2017
عمران يونس / سورية
+ الخط -

رحلت أمي عندما كنت في دمشق، اتصلت بي أختي وأخبرتني أن الماما انتقلت: "انزلي كي ندفنها". سافرت ودفنتها. كنت تعيسة وتائهة؛ فلم أبك، ولم تبك أختاي كذلك، حينها تناولنا الجيران كحلقة جديدة من مسلسل رمضاني جديد، وتقاطعت وتضادت الآراء كرهًا، وإعجابًا، وشكًّا بأرواحنا غريبة الانفعال.

وبعد أن خاضت كل معاركها التي لم تختر الكثير منها، وربحت معظمها وخسرت القليل منها وأهمها معركتها الأخيرة: رقدت إمي بجوار جدتي، والدتها؛ لأن مقبرة قرية والدي كانت مترعة بالجثث حديثة التفسخ لأموات الحرب. أتذكر أنه لم يحضر جنازتها غراب واحد، لم يحلق غراب فوق صوت الشيخ طيلة فترة الدفن.

عندما رحل والدي بعد ثمانية أشهر من انتقال والدتي، كنت تعيسة وغاضبة، دفنته ولم أبك، ولم تبك أختاي كذلك. مرة أخرى، تناولنا الجيران كحلقة أولى من جزء ثان لمسلسل رمضاني، باستنكار لردّات أفعالنا ودهشة أقل، إذ ما جاء بين الموتين كان موتًا كثيرًا:

كأن يموت رجل أمامك على التلفاز بطلقة واحدة في الرأس، أصدقاؤه يحاولون سحب جثته، سحبه واحتواؤه للمرة الأخيرة.. ثم يموت عشرين جنديًا في تفجير على حاجز، ثم خمسة عشر طفل يقضون اختناقًا بغاز رمي في الهواء لا يعترف بوجوده أحد (جاء من عند الله)؛ ثم يموت والدي بخطأ طبي في المشفى الحكومي بإشراف أطباء لم يثق والدي يومًا بشهاداتهم ولا بالطريقة التي تم اختيارهم للبعثات التي عادوا منها بهذه الشهادات. حزن لا يقاس وانزياح بيني وبين العالم بدأ يتشكل، بدأ يقطنه الأموات.

انتبهت أنه لم يطِر غراب واحد خلف نعش والدي، لم يطر فوقه، ولم يزعق على أشجار المقبرة.

لم اكتب شيئاً على صفحتي في فيسبوك، ولم اخبر أصدقائي.. مشغولة بحواسي كلها باتجاه الداخل: الفراغ الذي خلفه كل رحيل، وكأن ألم الفاقدين جميعًا مد غصنًا وانعقد بألم فقدي .. كل الأموات لي.
في كل زيارة للمقابر، كنت أتعذر بالحزن لأهرب من العودة مع الجماعة، وامشي بين القبور. واختبئ في البرية –أي برية أستطيع الوصول إليها من دون لفت الانتباه- لأمشي خلف نعوش الذين انتقلوا ولا قبور لهم. وفي جنازات الذين رحلوا ولا أعرفهم والذين سمعت بهم. أواسي قلوبًا متعبة لفقدهم، أواسيهم وأغضب معهم. كل هذا الفقد الذي لا يحتمل والكثيف والذي بات عبثيًا الآن.

لم يظهر لي في البرية غرابًا ولا احتضنني زعيقه ولا واساني صوته الذي لا ينتمي لعالم ما قبل الحرب. عالم ما قبل الحرب الذي بات واضحًا أنه كان أكذوبة أو مجرد حلم يقظة تافه للإنسانية بقناعها اللطيف. الغراب هو الحقيقة المناسبة للإنسانية بعد أن سقط عن وجهها القناع –كما يحدث في كل حرب- وباتت زقزقة العصافير وسيرة الحمائم البريئة والوديعة والدجاج مصدر قلق لي. لم يكن وجودهم مبرَّرًا أو حقيقيًا، بل كما لو أنه طلب منا أن  نؤمن بهم في كتب المدرسة سيئة الطباعة وبرامج الأطفال رديئة الإخراج.

عدت إلى دمشق تائهة لا حزن لدي. لا أحوي داخلي سوى الغضب.

هناك كانت الغربان بانتظاري كلها
غااااق البشري مجبول على اغتصاب البشري والغضب والنسيان
غااااق، الأموات بخير. الخوف على الأحياء
غااااق إنه قدر البشر وقضاء السماء.

ثم تتابع موت أصدقاء أعرفهم وأصدقاء لا اعرفهم، منهم مات كما تموت الطبيعة، بعضهم قفز من على أسطح عالية، منهم من تجرّع سمًا، بعضهم ابتلعته الحرب، منهم من اختارته السماء بعد أن امتلأت روحه بالكدمات التي يوسمها البشر على أرواح الرفاق. أبي، أمي، رجل بطلقة في رأسه، جنود مفجرين على حاجز، خمسة عشر طفلًا بالهواء السام. حسن ألقى بنفسه من نافذة منزله، لمى وقد غلبت موتها بالفرح، وسام بإعدام ميداني لم يسمع به أحد وقتها، فدوى التي غنت في أول الحلم، ستة أطفال مذبوحي الأعناق في السلمية، واحد وثلاثون غريقًا، خمسة من ذوي الخوذات البيضاء، ثلاثة عشر مخنوقين في شاحنة لنقل النفط وتهريب البشر.

مشيت خلف توابيتهم كلها، في الحقيقة والعالم الافتراضي، وفي الخيال. ينتظرني غرباني كل مرة لأعود منهم ينظرون في عيني يخطفون حليي الذهبية ويطيرون:

غاااق البشري يهرب من الألم
غااااق البشري مجبول على اغتصاب البشري والغضب والنسيان
وإن مات يصبح جميلاً
غاااااق الخوف على الأحياء

أزور المقابر القديمة التي أضحت مكتظة؛ فارتفع فيها سعر القبر. تمدّدت القبور على الأراضي المجاورة وأضحى هناك قبور من طابقين. - بل في أماكن الحصار ستدفن كل والدة شهيدها أمام باب مطبخها، في الشارع الفرعي المار أمام مطبخها، يربين القبور كحدائق صغيرة للذكريات. أغضب لرحيلهم فلا أواسي أحدًا، فقد آخر، ألم من انزياح آخر في أرواحنا نحن الأحياء.

ترفض الغربان مرافقتي إلى البرية أو إلى المقابر:

غااااق رسالة الغربان من السماء هي للأحياء
غااااق الأموات بخير
غااااق والبشري مجبول على اغتصاب البشري والغضب والنسيان

لم أصدق أنهم بخير، فنحن لسنا بخير، وألم الفقد لا يحتمل.
لم يفهم الكثيرون. لم أغضب من موت سمعت به: كأن كل الأموات لي؛ أموات الحرب وأموات الشوارع الآمنة إلا من القذائف، الذي سار طلبًا للموت والذي لاقاه الموت، الذي صارع، والذي استسلم، الذي غادر حزينًا على الأحياء، أو فرحًا لمغادرة هذا العالم اخيرًا، الذي انتهى والذي اختطفه الموت (كما يقال عن صغار السن من الأموات).

إنها الحرب مرة أخرى؛ لحظة ساخنة معادة ومكررة على هذا الكوكب المحتدم، والموت كثيف حولنا يرفده الموتى الذين يسكنون الأخبار، في اليمن والصومال، في أوروبا والعراق. كلهم لي، إنهم أمواتي.
في زيارة لمنزل عائلتي الذي بات الآن مليئًا بالفقد، وأختين غاضبتين: ماتت قطتنا الصغيرة الثانية وبقيت قطتنا الأولى تدور حولها بألم حتى رحلت، وتوقفت عن اللعب حتى هذا اليوم.

أنا وأختاي بكينا، بحثنا عن تابوت يليق بموتها ونحن نبكي، ناقشنا مكان الدفن ونحن نبكي، قررنا من سيقوم بدفنها ونحن نبكي. وباكيات قررنا وضع جثتها داخل علبة كرتونية للأحذية، لونها ذهبي بصور لبرج إيفيل باللون الزهري وبزوايا مختلفة، وفتيات فرنسيات بتنانير قصيرة ونظارات شمسية كبيرة، وفناجين قهوة معلقة –بين الفرنسيات والأبراج- في الهواء.

سخر مني سائق التاكسي في البداية، من صوت نحيبي العالي الذي لا يناسب موت قطة في علبة كرتونية للأحذية، وحاول أن يخبرني عن أخيه الذي أكلته الحرب، والدته التي ماتت صغيرة، وأخته التي قضت حزنًا على موت زوجها في مكان ما. لما عجزوا عن معرفة مكان جثمانه؛ دفنوه بلا جثمان.

مستسلماً أمام نشيجي، حائرًا بقصصه، صمت وساعدني على حفر القبر الصغير في حديقة عامة إلى جانب حاوية للنفايات كبيرة ومكشوفة للقطط، كانت هناك الكثير من القطط التي ستموت وتنضم لأمي وأبي والقطة الصغيرة والأموات الذين أعرفهم والأموات الذين سمعت بهم، وأخ سائق التاكسي، ووالدته وأخته وزوج أخته، الرجل الذي أهداه القناص طلقة في رأسه والجنود العشرين على الحاجز، والأطفال الخمسة عشر، حسن، لُمى، فدوى، واحد وثلاثون غريقًا، ستة أطفال مذبوحي الأعناق، ثم خمسة من أصحاب الخوذ البيضاء، ثلاثة عشر مخنوقين في شاحنة لنقل النفط وتهريب البشر... وأموات لا أعرفهم من سكان نشرات الأخبار المحلية والعالمية، وأموات لم أسمع بهم بعد.

موتي على دفعات، كل دفعة في تابوت. وبيني وبين العالم أمواتي كلهم، ولا هدوء لقلبي سوى بالسير خلف النعوش وفي المقابر وداخل زعيق الغربان.
أعرف أمواتي كلهم وأحبهم جميعًا، بعضهم لا يبادلني الشعور، فقد باتوا الآن أجمل، فوق البشري ورغباته وغضبه.
غااق الموتى بخير
أغادر إليهم كل مساء وفي أوقات صحوي،

غاااق الموتى بخير
كلما ازداد موتي ازدادت ارتحالاتي إليهم
صحبتهم جميلة ومسكرة، يكرهون ألعاب الأحياء، يتفهمون غضبنا ولا يفهمون حزننا فهم في مكان أفضل الآن ولا ألام لديهم.
لا يعلم هذا السر سوى أنا وأمواتي والغربان.

غااااق الموتى بخير
غاااق رسالة الغربان هي للأحياء.
وجه الحزن هو البكاء،
وجه التعاسة هو الغضب.

المساهمون