الاتجاهات الأكثر تأثيراً في الحياة والموارد

26 ديسمبر 2014

من معرض IFA للإلكترونيات في ألمانيا (05 سبتمبر/2014/ Getty)

+ الخط -
صعدت، في السنوات الماضية، خمسة اتجاهات في التقنية، هيمنت على الموارد والأسواق، وأعادت تشكيل الأسواق والعلاقات بين الاقتصاد والمجتمعات والسياسة، وغيّرت، على نحو جوهري، في موازين القوى والتأثير في داخل المجتمعات، وفي العلاقات بين الدول والأسواق، واتجاهات الصادرات والواردات بين الدول والأسواق. تشكلت أسواق جديدة، وتتبعها، بطبيعة الحال، اتجاهات اجتماعية ثقافية جديدة، وسوف تتشكل حتماً نخب جديدة، تقود المجتمعات والأسواق والسياسة، وتحاول هذه السطور الإجابة على السؤال التلقائي والبديهي؛ كيف ولماذا يتجه الإصلاح في ظل هذه الاتجاهات الجديدة؟
يمكن تقديم الاتجاهات الجديدة في التقنية بخمس كلمات مفتاحية: الحوسبة، والتشبيك، والأنسنة، والتصغير، والجينوم.
ففي الحوسبة، صعدت وتطورت تقنيات الحاسوب والبرمجيات والتطبيقات الحاسوبية، وأنشأت عالماً جديداً من الأعمال والأسواق والتطبيقات الثورية المدهشة في الإعلام والمكاتب والإدارة. وفي ذلك، هاجرت التقنية، تتبعها الأسواق والموارد والمهارات والتدريب والتعليم، من محاكاة العضلات والجسد إلى محاكاة العقل والإنسان، وتطور الإحلال والتطوير من الآلة التي تعمل بدلاً من جسد الإنسان إلى الآلة التي تعمل بدلاً من عقله، .. التقنية المستمدة من فهم الإنسان واللغة والعقل والتداعيات والتذكر والنسيان، بدلاً من التقنية المستمدة من اكتشاف القوة المؤثرة والمعوقة في الكون والإنسان، الجاذبية والمقاومة والحركة والسكون والدوران والسقوط. والانتقال من الانشغال بتحويل المادة إلى الطاقة، إلى تحويل اللغة والصور والأصوات والأفكار والمهارات إلى رموز رقمية وفوتونات ضوئية.
وفي إمكانية نقل وبث وتبادل المعارف والمعلومات والبيانات المحوسبة عبر الشبكة، وفي القدرة على إدارتها وتنظيمها من خلال أجهزة صغيرة ذكية، بدءاً باللابتوب، ثم التابلت، ثم الموبايلات، تحول العالم، بكل مكوناته الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، من الهرمية إلى الشبكية، الأسواق والأعمال والعلاقات والقوة والتأثير أعيد تشكيلها، كما فلسفتها، لتتحول إلى شبكات "افتراضية"، تجري، من خلالها، أعمال البيع والشراء والتسويق والعمل من بعد، والتعلم والبث والاستقبال والمشاركة، ونشأت أسواق جديدة عملاقة حول الشبكة، أو مستمدة منها، أكثرها وضوحاً، بالطبع "فيسبوك" و"غوغل" و"أمازون". ولكن، يوجد غيرها مليارات المواقع التي تقدم الأفكار والخدمات وتسوقها. لقد وضعت كلمة افتراضية بين قوسين، لأنها لم تعد افتراضية كما جرت تسميتها، بل إنها الواقع الجديد، وكأن الافتراضي هو الصلب الذي كان واقعاً، وكأن الواقع هو الشبكة، وكأنك لا تكون موجوداً، إن لم تكن في الشبكة، فأنت، اليوم، تعرف، من خلال صفحتك في "فيسبوك" و"تويتر"، يشكلان هويتك أكثر من أي شيء آخر، وكذا بريدك الإلكتروني وصفحتك وموقع مؤسستك على الشبكة، ولم تعد المكاتب الصلبة الإسمنتية تعني ما كانت تعنيه من قبل، بل ويمكن الاستغناء عنها في أعمال ومؤسسات كثيرة، وربما يستغنى عنها لاحقاً.. سوف نتحول للعمل والحياة في الشبكة.

وفي أنسنة هذه التقنيات، بمعنى توافقها مع الإنسان والمستخدم العادي، وقدرته على إدارتها والتعامل معها بلا خبرات مقعدة ولا تدريب طويل برغم تعقيداتها وذكائها وقدرتها على فهم الإنسان وتوقعه والتفاعل معه، تجري تحولات هائلة وعميقة في طبيعة الخبرات نفسها، والتخصصات العلمية والتقنية، وأساليب التعليم والتعلم، وتتحول المؤسسات التعليمية نفسها إلى شبكات، وتصبح التخصصات أو كثير منها مشاعاً يمكن تعلمه وتطبيقه. في هذه الفوضى في التخصصات والمهارات والمؤسسات، وفي تحول العلاقات بين الإنسان والآلة، وفي اختفاء وتغير الوسيط بين المستخدم والآلة يتغير الإنسان نفسه في علاقته بنفسه والسوق والمؤسسات والسلطة والمجتمع!
وفي تصغير الأجهزة الذكية والمؤنسنة، والمضي في تصغيرها، لتصل إلى مستوى مجهري (نانو تكنولوجي)، تشكلت فرص وآفاق جديدة، تجاوزت الخيال الإنساني، مثل القدرة على الوصول إلى أعماق جسم الإنسان، وإجراء عمليات التصوير والجراحة في أمكنة بعيدة وعميقة وحساسة من جسمه، ومن غير تدخل جراحي، أو الوصول إلى أمكنة خطيرة وخفية، أو سامة وملوثة، ثم التدخل الإيجابي لمعالجة الثلوث، وإعادة استخدام وتكرير الماء وسائر المواد، والتوفير في الطاقة، والعمل في أمكنة بعيدة ومعزولة في الصحارى، أو الغابات أو الأمكنة السرية، بلا حاجة لخدمات أساسية كبرى، فأنت، اليوم، في أي مكان في العالم، تتواصل مع أهم المؤسسات الإعلامية والبحثية والأسواق، وتعمل وتعرف كل شيء تقريباً. وفي ذلك، يتساوى الراعي في الصحراء والعامل في الجبال والمناجم القصية في التواصل والمعرفة مع باراك أوباما...
وفي التقدم القائم على علوم وتقنيات الجينوم والهندسة الحيوية والوراثية، يدخل الإنسان، ويدخل معه، الكائنات الحية في مرحلة جديدة وآفاق جديدة، في زيادة القدرات والفاعلية الحيوية ومعالجة الأمراض والاستنساخ، وتبديل الأعضاء وإنتاج الغذاء، بل وربما الاستغناء عنه بقدرة الإنسان نفسه مباشرة على التمثيل الضوئي الكلوروفيلي.
وحول هذه التقنيات، نشأت، وتنشأ وسوف تنشأ، منظومة واتجاهات جديدة، وتتصاعد الأهمية الاجتماعية والاقتصادية لاتجاهات جديدة في التشكل الاجتماعي والثقافي، أعرضها باختصار في خمسة اتجاهات، مؤملاً أن أستأنف التوضيح والتوسع في العرض في مقالة قادمة؛ أسلوب الحياة ومهاراتها، والمجتمعات والمدن المستقلة، والفنون الجميلة والإبداعية؛ من العمارة والشعر والموسيقى والتصميم والرواية والرسم، والفلسفة والتصوف، وأخيراً الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه.

دلالات
428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"