الأرض عربة خيل ينهكها بالسياط القادرون

22 يوليو 2015
"الجانب الآخر"، شيهارو شيوتا/ اليابان
+ الخط -

ما من أشياء صغيرة في الحياة. صِغرُها الذي يجعلها خارج دائرة النظر يُكسبها أهميتها. إذ تغدو خطراً وعائقاً أمام الأشياء الكبيرة: تعرقلها، تعكِّرها، تكسرها وتُلقيها أرضاً. أن تستهين بالصغائر والصغير يعني أن تعرِّض نفسك للدغات الزنابير والعقارب من غير حساب.
*
أتلمّظ أفكارك قبل شهر من الآن وأنظر إلى الطاولة نفسها. إلى الكتاب المفتوح يكاد يسقط على الأرض. يمنعه ثقل قسمه المستقر. آثارُ يديك أتفادى أن أحسّها في مكان. أراها على صدري. على مرآة الحمّام. على أجنحة العصافير التي كانت تقترب منّا كثيراً في فيء الحديقة المخرّم بالشمس. ستائر النافذة مسدَلة لا ينفذ منها ضوء ولا ظلّ. بعضك في الفراش المخربط كما في لوحات مجانين السورياليين. أجلس إلى الطاولة نفسها. تروحين وتجيئين. أشمّ رائحة قهوتك ورائي في المطبخ الصغير وأنسى أن أغلق الباب قبل أن ينطفيء سرب يمام النجوم.
*
أفتح قطبات صدري واحدة واحدة. يمضي بيَ الظل بعيداً عن شاطئ لا يلتفت إلى الشمس. كأنَّ التابوت المتحجِّر بنا، نحن المتراصّين تحت سقفه الأرجواني المتصدِّع، أرخى طرفاً من كيس الطعام لسمَكٍ لا يُشبعه الكذب المقدَّس في رمضان. تبول البغلة على أقدام المارّة المربوطة برَسَن حِدادٍ مديد. تاجٌ يصرخ باحثاً عن عينَين لرأسٍ يجرّه ذيل حصان في دمياط. كلُّ ما تقوله النعامة ينزل إلى تحت. إلى الباصات المليئة بدفء الزفت. إلى غابات الديدان الملتفة على رقابٍ وألسنةٍ ورايات. قطبة تقبض بأسناننا على الريح، وأُخرى تصبُّ البلاهةُ من أسفلها ما يرفس طابور واقفين لا تسمح لهم بملامستها الأرض. أدور في المكان دورتَين وامشي على أربَعي لا جبان.
*
تستقبلني الحبيبة الوحيدة مبتهجة، خجولة كل صباح. أُشعل الضوء. أُطفئه. أمرّ بها شارداً. يتألم الكرسيّ من صرير قلبي، أُدير لها ظهري: لا تعاتبُ ولا تلوم. لا أتحمّم بعطر وأتنشّفُ بنور: أتحمَّم بماءٍ ساخن، وأتنشّف بمنشفة زرقاء. أضمِّد الجِراح بعطر وضَوء مجرّة فيروز وصباح ومحمد عبد الوهاب... أغلي القهوة على مهل ورأسي مَعْبَرٌ للرياح. حبيبتي الوحيدة، المبتهجة بمزيجِ حزن وخجل دائمين، تشاركني جلستي. لا تبدِّل مكانها ولا تشرب القهوة. أصبّ لها فنجاناً من الماء البارد. يرشف كلٌّ منا فنجانه على طريقته. لا نتكلّم. نستمع إلى جدول الذاكرة الرقراق صامتين وهي منهمكة بألق وريقاتها الخضراء الغضة ملءَ الضوء.
*
حياتي بلا قدمَين. تمشي على عجَلة لا تكلّ عن الدوَران. فكِّي يدَيها لتُنزِل عن ظهرينا الشيطان. لا تصنع القبلات أطفالاً. يقف الهواء مدندِناً بأوراق غصن فوق أحجار يُغمِض بياضُها عينيه على الشوق. بين الغيوم الطافية وبَعوضِ المساء وجهُ راما يجمع في سخونة المروج بعض الخبز. لا تحبّ الوحوش التماثيل. تبكي الأزهارُ الشقية مصير خشبٍ تجرّه حيوانات إلى المرج. الأرض عربة خيل ينهكها بالسياط القادرون. لم يعُد عدد الخيول كافياً للعلف. تَشقَّقَ رمّانُها مع صقيع الفجر النديّ.
*
عقدة شعرها لا تنفكّ. أحاول أن أحلَّها خيطاً بعد خيط لأملأ الكأس من ضراوة رأسها على صدري. تنفلش عقدة الصبر ونسقط معاً حتى الخروج من تحت الدوش. لا تنظر نحوي. عيناها تفتحان دروباً في غابةٍ تضيق. جمرُ المدى مدارج بياض في روضة اليقين يفرِغ بصيصَه في ضحكاتنا الذائبات تحت ضوء خفيف.
*
لا جديد في هذا الصباح. البشر لا يتغيّرون إلا في شيئين: في الوحشية وفي الحب.
*
أمشي متلوّياً على مهل، بسرعة دودةٍ وقودُها الخطر.
*
لا ينتظر الغدُ أحداً.
*
النار تأكل وتشرب وتنام.



* شاعر سوري مقيم في كندا

المساهمون